المشاهد نت

قرى يمنية تواجه الموت في سبيل “شربة ماء”

آبار سحيقة محفوفة بالمخاطر هي الملاذ الوحيد لمياه الشرب في بعض مناطق اليمن

تعز – لميس الصوفي

لم تنتهِ معاناة نساء وأطفال قرية المحدار، التابعة لمديرية شرعب الرونة، بمحافظة تعز (جنوب غربي اليمن)، فما زالوا يرزحون تحت وطأة الحرمان من مياه الشرب.

بئر وحيدة في القرية، هي كل ما يمتلكه الأهالي هناك كمصدر وحيد للمياه، يغذي جميع بيوت القرية على مر عقودٍ متعاقبة، فالطبيعة الجبلية للمنطقة جعلت من فكرة حفر آبار أخرى “مستحيلة”.

الأمر الذي يضطر نساء وأطفال القرية إلى قطع مسافةٍ تقارب 800 متر يوميًا، للوصول إلى البئر الوحيدة وجلب المياه، راكبين مخاطر جمة في سبيل ذلك.

يعد الوصول للمياه أمرا في غاية الصعوبة للسكان في اليمن خصوصا في الريف. إذ أن 17.8 مليون نسمة، 50% منهم من الأطفال ليس لديهم وصول للمياه والصرف الصحي، حسب تقرير منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة.

طريق محفوف بالمخاطر

يتمثل خطر مهمة جلب المياه من البئر، أن هذه الأخيرة تقع أسفل منحدرٍ جبلي شاهق، والطريق إليه وعرة للغاية، لاسيما في موسم الأمطار؛ نتيجة تجمع السيول وانزلاق الصخور أثناء الأمطار.

ويتراوح عمق البئر بين 20 و25 مترًا حُفرِتْ بشكل عمودي مائل؛ ما يحتم على جالبي المياه النزول إلى قعر البئر، ولا خيار آخر عن ذلك، الأمر الذي أسهم في تزايد حوادث السقوط.

وسجلت نحو 20 حالة سقوط لنساءٍ وأطفال، يتم انتشالهم دون إصابات بالغة. غير أن الأسبوع الأول من شهر مارس/ آذار الماضي، شهد البئر حادثة سقوط راح ضحيتها طفل وامرأة.

بينما تلجأ “واردات” (لفظ محلي يطلق على من يجلب الماء من النساء) المياه من النساء للتحفظ عن معظم الحوادث، حتى لا يفرض عليهنّ جلب المياه من قرى مجاورة وقطع مسافاتٍ طويلة.

مقطع يوضح صعوبة المدخل المؤدي الى البئر:

تهديد للنساء والأطفال

“جميلة” زوجة شقيق الضحية “سعادة علي غلاب” تحكي لـ”المشاهد” تجربتها الشخصية، وتقول إن هشاشة جدار البئر (يطلق عليه الأهالي اسم “كربة”)، تسببت بتعرضها للسقوط أكثر من مرة، وآخرها كانت مع إحدى النساء، فقد سقطتا الاثنتين دفعةً واحدة، ولكن تم رفعهما مباشرةً كون بقية النساء كنّ في حالة تأهبٍ وحذر دائم لهكذا حوادث.

تكمل جميلة: “إن خطر البئر لا يهدد النساء فقط، بل وحتى أطفالنا كان لهم نصيبٌ من المعاناة، فقد تعرض بعضهم للغرق أكثر من مرة”.

وتضيف: وقعت حادثة مؤخرًا أودت بحياة الطفل “محمد عبده”، وامرأة تدعى “سعادة” التي كانت تتعرض للسقوط مرارًا وتنجو، لكن الحادثة الأخيرة سلبت حياتها.

وتؤكد جميلة: “نحن نعتبر هذه البئر مصدرًا لمياه الشرب الأساسي، ولا غنى لنا عنها، لأنها الوحيدة الصالحة للشرب، حتى مع وجود خزانات مياه لدى أغلب سكان القرية، إلا أنها صغيرة وتغطي الإحتياج في موسم الأمطار فقط”.

“فتحية” ابنة الـ20 عامًا، تعرضت للسقوط هي الأخرى مرتين، إحداهما كانت برفقة طفل لم يتجاوز عامه العاشر، ولكن إحدى النساء كانت برفقتها ورفعتها بإلقاء دلو الماء الخاص بها وسحبتها من البئر.

قصص من البئر

ثمة قصص واقعية، تشرح مدى معاناة الأهالي لجلب الماء من البئر، الذين يموتون من أجل الماء، بالإضافة إلى المشقة التي يكابدونها حتى في ما يتعلق بعمليات الإنقاذ.

يتحدث أحد أبناء القرية، صادق دبوان، لـ”المشاهد” عن تجربته أثناء انتشال جثتي غريقين، ويقول: انطلقت بسرعة نحو البئر فور علمي بخبر غرق امرأة وطفل، ووصلت البئر ولم أضيع أية ثانية؛ للحيلولة دون مفارقة الغريقين للحياة.

إقرأ أيضاً  رغم التصعيد بالبحر الأحمر.. غروندبرغ: «خارطة الطريق» مازالت ممكنة

ويضيف: بدأت بربط حبل بمنتصف جسدي وطرفه الآخر بيدي مساعدين أعلى سطح البئر، وشرعت في الغطس يحدوني الأمل في إنقاذهم، وبدأت بتفتيش المنطقة لدقائق، إلا أن ظلام البئر حال دون تحقيق أية نتيجة.

ويتابع: عدت إلى السطح للتزود بأكبر قدر من الهواء، وكررت الغطس بكل جهد نزولًا في غياهب البئر مقاومًا تيار الماء، حتى تم العثور على الطفل، وإرسال إشارات عبر الحبل للمساعدين لسحبنا، ووصلت للسطح وسلمتهم الطفل لنقله إلى أقرب مركز صحي لإنقاذه.

ويواصل دبوان: “عدت مجددًا للغطس بحثًا عن المرأة، ورغم صعوبة تنفسي إلا أني غصت هذه المرة مسافات أعمق في البئر تنعدم فيها الرؤية، كما شعرت بالاختناق، وقبل العودة إلى السطح يائسًا لمستُ أصابع أقدام وانتفاخ ملابس الضحية، عندها أمسكت بها من ثيابها وقررت رفعها معتمدًا على المساعدين في الأعلى عن طريق الحبل، واستطاعوا بعد جهدٍ سحبنا معًا وانتشال جثة الغريقة من بين يدي”.

حلول مؤقتة

رغم محاولات أبناء القرية وبإمكانياتهم البسيطة مدّ خط أنابيب يعمل على توصيل المياه بقوة دفع مولد كهربائي من داخل البئر إلى أعلى الجبل، لتصب داخل خزانات بلاستيكية يستفيد منها الأهالي، إلا أن هذا لم ينجح.

وذلك يعود إلى شدة انحدار المنطقة التي تقع فيها البئر، حيث إن قوة دفع المياه للأعلى تكون بطيئة، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة المشتقات النفطية الخاصة بالمولد الكهربائي.

وهذا يعني استمرار الأطفال والنساء النزول وجلب المياه من داخل البئر، إما عبر عبوات بلاستيكية توضع على ظهر الحمير أو حملًا على رؤوسهم، معرضين حياتهم للغرق في غياهب جُبٍ مظلم.

مبادرات لإصلاح البئر

يقول القائم بمهام إدارة شؤون القرية، علي غلاب: “بعد الواقعة الأخيرة التي شهدتها القرية تم التعاطف من قبل بعض الخيرين، وتجميع مبلغ مالي استنفد في تعزيز محيط البئر وإقامة الجدران الساندة كخطوة أولى لحماية البئر من تساقط الصخور، وتصريف مياه السيول”.

هذا إلى جانب العديد من الوعود بإيجاد منظومة لرفع المياه من البئر إلى القرية، ولكنها تلاشت مع الوقت، وباتت مجرد اقتراحات وتوصيات ووعود، بحسب حديث غلاب لـ”المشاهد”.

جانب من الأعمال التي اجريت في سبيل إصلاح البئر:

إهمال مزمن

لم تتلقَّ القرية أي تمويل لدعم مشاريع المياه من الحكومة حتى الآن، حسب إدارة مشاريع المياه لدى مكتب كهرباء ومياه الريف. مشيرين إلى أنه في العام 2009 تم النزول إلى المنطقة لغرض تركيب منظومة من بئر تقع في منطقة “المفجر”، وبناء خزان أعلى المنطقة يتم من خلاله مد خط أنابيب مياه تستفيد منه عدة قرى، من بينها المحدار ووادي الهيجة والجازع.

غير أن نشوب خلافات بين أهالي المنطقة حول موقع بناء الخزان الذي يغذي معظم عزل المنطقة بالماء، تسببت في إيقاف المشروع تمامًا، ولم تفلح أية وساطات آنذاك في حل الخلاف بين الأهالي، كما لم تحظَ القرية من يومها بأي مشروع خدمي حتى اللحظة.

ووفقًا لمكتب وكهرباء مياه الريف، فإنه تم تنفيذ ما يزيد عن 15 مشروعًا للمياه في الفترة ما بين عامي 2020 وحتى 2022، وذلك في محيط مديرية الرونة، شملت عدة عزل وقرى، غير أنها لم تتضمن قرية المحدار، التي ظلت ترزح تحت ليل المعاناة.

مقالات مشابهة