المشاهد نت

الكوز.. آنية تقليدية ” للماء الحي “تنافس الوسائل الحديثة

كوز - زير للماء - الصورة من شبكة الجوف

المشاهد – خاص : محمد الخيواني
إذا ما مررت بجانبه، فغالباً ستفضل ألا تبتعد عنه دون التلذذ بجرعات من مياهه العذبة ذات المذاق والنكهة الطبيعيين اللذين يميز مياه العيون والآبار.
إنه “الكوز”، ذلك الإناء الفخاري، المصنوع بطريقة تقليدية على أيدي “الكوّازين”، الحرفيين المهرة الذين يتخذون لهم أماكن مخصصة لصناعته وبيعه، مثل “سوق الملح” في العاصمة صنعاء.
تتعدد تسميات هذا الإناء التراثي الفلكلوري، من منطقة إلى أخرى، وباختلاف أحجامه؛ كـ”الجرة”، “الدوح”، “الزير”، “المدل”، “القلة”…
ويستخدم الكوز في حفظ مياه الشرب وتبريدها، فضلا عن التنقية والترشيح.
وبينما يكثر استخدام “الكوز” في الأرياف بشكل كبير، يقل استخدامه كثيرا في المدن، حيث طغت على حياة الناس هناك بدائله الحديثة، المصنوعة بطرق ووسائل تقنية حديثة.
ورغم أن كثيرا من بيوت المناطق الريفية لا تخلو منه، ورغم اهتمام أبناء الريف به وإقبالهم عليه؛ إلا أن أكثرهم لا يدرك ما تمتاز بها هذه الآنية من مزايا، صحية تحديدا.
الماء الحي والميت
لا يعلم الكثيرون، بل الأغلب الأعم من الناس، أن مياه الشرب التي تصل إلى منازلنا هي مياه “ميتة”، بما في ذلك الماء المعالج بالأوزون، أو ما يطلق عليها “المياه الصحية”، وأن طاقتها الحيوية تعود إلى الحياة بمجرد وضعها في أوان فخارية؛ لأن تلك الأواني تتمتع بمزايا ذات أهمية بالغة لحفظ مياه الشرب.
هذا ما أثبته الفيزيائي السوري علي منصور كيالي، مع مجموعة من زملائه العلماء، في دراسة بينت أن وضع الماء في أوان فخارية يحييه ويعيد له طاقته العجيبة وحيويته بعد أن كان “ميتاً” بسبب تعرضه لضغط الأنابيب التي تحمله إلى البيوت.
وفي محاضرة متلفزة متداولة على الشبكة العنكبوتية، يقول كيالي إن: “الماء فيه طاقة عجيبة؛ لكنه إذا ضُغط داخل الأنابيب لكي يصل إلى البيوت يفقد كل الطاقة الحيوية التي فيه، ولذلك نحن نوصل إلى بيوتنا ماء ميتاً”، متسائلاً: “كيف سنعيد هذه الطاقة إلى الماء، الذي يتكون منه سبعون بالمائة من جسم الإنسان؟”.
ويجيب: “وجدنا من خلال التجارب أن أقرب مادة للإنسان في الطبيعة هي الفخار؛ ولذلك أخذنا ماء فقد حيويته جراء ضغطه بالأنابيب، ووضعناه داخل أواني الفخار، وبعد نصف ساعة عادت إليه كل الطاقة الحيوية”.
ويقول العلماء إن الماء عند خلقه الأول كان منتظما وعلى صورة صحيحة، ثم حدث له عدم الانتظام. ويطلقون على الماء غير المنتظم اسم “الماء الميت”، والماء المنتظم الأقطاب “الماء الحي”.
مياه صحية
لا يتميز ماء “الكوز” عن غيره من المياه الصالحة للشرب، بالطاقة الحيوية فقط، بل ويتجاوزها بعديد خصائص صحية، بدءا بتأثيراته الطبية ومروراً بنقائه وعذوبته ووصولاً إلى مذاقه وبرودته.
إذ يقول العلماء إن للماء الحي أو ماء الفخار تأثيرات طبية عديدة، فهو يحتوي على الطاقة الفاعلة في جسم الإنسان بصفة عامة، سواء على مستوى الطاقة الذهنية أو العضلية والعصبية وحتى الطاقة الجنسية.
ويعتبر الكوز الأقدرعلى تقديم مياه صالحة للشرب، لصفائها وعذوبة طعمها وخلوها من الأملاح؛ بسبب خصائص المرشحات المصنوعة من الفخار في تنقية المياه وإزالة الشوائب والاحتفاظ بالعناصر المهمة فيها، في ظل التلوث الواسع للمياه وتعدد مصادره غير الآمنة وسوء صناعة المرشحات التي تنقيه.

الكوز.. آنية تقليدية " للماء الحي "تنافس الوسائل الحديثة
كوز المرشحات

والمرشحات المصنوعة من الفخار هي أوعية فخارية صغيرة، توضع على فوهات الأكواز لتدخل المياه عبرها فتترشح خلال مساماتها إلى الأكواز التي ترشح جدرانها أيضا مياها غاية في النقاء.
وينصح “الكوازون” مستخدمي الكوز والمرشح بالحفاظ على نظافته من الداخل والخارج، عبر غسله جيدا دورياً، بمياه نقية خالية من الملوحة، ثم تعريضه لأشعة الشمس، حتى يؤدي وظيفته في تنقية المياه وترشيحها على أكمل وجه.
ولعل تفشي المشاكل الصحية المتعلقة بتلوث المياه، كالإصابة بالفشل الكلوي وأمراض المعدة وارتفاع نسبتهما، تعكس غياب الكوز من البيوت وعدم الاكتراث بأهميته، في حين تمتع الاجداد والقدماء بصحة جيدة في ظل امتناعهم عن شرب المياه سوى من الأواني الفخارية.
أفضلية الكوز على الوسائل الأخرى لا تقتصر على حفظ المياه وتنقيتها، ولا تأثيراتها الصحية وفرادة مذاقها، بل وتكمن أهمية هذا الإناء وغيره من الأواني الفخارية في تقديم مياه باردة دون الحاجة للكهرباء.
ثلاجة البيت القديم
يعد الكوز بمثابة ثلاجة لتبريد مياه الشرب في العديد من مناطق العالم، خاصة الحارة منها والتي تتسع فيها رقعة الفقر، منذ تم صنعه للمرة الأولى في الألفية الثالثة قبل الميلاد تقريبا.
وكان القدماء يلجؤون إلى توظيف بعض العوامل الطبيعية بغية زيادة فاعلية الكوز في تبريد المياه؛ كوضعه مرتفعا وفي مهب الهواء، أو لفه من الخارج بقطعة قماش مبللة، تعمل على امتصاص درجة حرارته المرتفعة؛ ناهيك عن خاصيته الذاتية التي تمكنه من تأدية هذه المهمة.
يكمن التفسير العلمي لهذه الخاصية في مفهوم “الحرارة الكامنة”، و”التبريد التبخري”؛ إذ يتسرب بعض الماء من داخل الكوز إلى سطحه الخارجي عن طريق مساماته، وعلى السطح الخارجي الرطب للكوز تتم عملية التبخر إلى الهواء الجوي، مما يساهم في انخفاض درجة حرارته، ليستمدها من درجة حرارة المياه الموجودة بداخلة، للحفاظ على توازن درجة الحرارة بين مادة الكوز وبين ما تحتويه من المياه. وبهذا يتم تبريد تلك المياه.
الكوز.. آنية تقليدية " للماء الحي "تنافس الوسائل الحديثة

إقرأ أيضاً  عملة معدنية جديدة.. هل فشلت جهود إنهاء الانقسام النقدي؟

الكوز اثناء تسريب المياه
ثلاجة الفقراء
وبما أن “الزير” يستخدم لحفظ محتواه وتبريده، فمن الممكن أن يقوم مقام الثلاجات الكهربائية في حفظ وتبريد المنتجات الغذائية والخضروات، تحديدا لمن لا يملك القدرة على توفير ثمن هذه التقنيات الحديثة.
ولعل هذا ما فكر به المبتكران: النيجيري محمد باه آبا، والهندي مانسوخ براجباتي، المنحدران من عائلتين تعمل في صناعة الأواني الفخارية، واللذان استخدما -كلّاً على حدة- ما لديهما من حرفة لتقديم أشياء أفضل وأكثر أهمية.
ففي نيجيريا ابتكر محمد آبا، عام 1995، نظام “وعاء داخل وعاء”، وهو عبارة عن كوز صغير يوضع داخل آخر أكبر منه، وتملأ المساحة بينهما بالرمل إضافة إلى الماء العذب، ثم توضع الفواكه والخضروات وغيرها داخل الكوز الصغير، ويغطى السطح بقطعة قماش مبللة، مع وضعه في مكان جاف وذي تهوية جيدة، حتى يتبخر الماء ويجف سطح الكوز الأكبر.
“آبا”، وبعد أن صنع 5000 “وعاء داخل وعاء”، حاز، في العام 2000، جائزة رولكس للمبادرات الطموحة، وتبلغ قيمتها 75000$، سخرها لترويج منتجه في شتى أنحاء نيجيريا، بُعيد سعي عديد منظمات لنشر “ثلاجة الصحراء” هذه على مناطق واسعة من دول القارة الأفريقية.
لقد كان لهذا الاختراع أثر كبير في تحسين حياة الناس، وتقليل الهدر في الموارد بسبب ارتفاع درجة الحرارة الذي يسبب تلف المواد الغذائية في فترة وجيزة قد لا تتجاوز ثلاثة أيام، فأصبح بالإمكان، بفضل هذا الابتكار، إبقاؤها صالحة حوالى 20 يوما.
(صورة نظام داخل نظام)
أما في الهند فقد صنع براجباتي “ميتي كول”: ثلاجة الفخار، لتبريد الأطعمة دون الحاجة إلى الكهرباء، إضافة إلى ابتكارات أخرى كصناعة فلترات بأسعار منخفضة لتنقية المياه للفقراء، وأوان صحية للطهي، في محاولة لعمل تصميمات عصرية من الأواني الفخارية.
حظيت منتجات براجباتي باهتمام كبير، بل وتم تصديرها إلى مناطق مختلفة في العالم، خاصة “ميتي كول”؛ نظرا لجودتها وبساطة الفكرة وأثرها الصديق للبيئة، ليتم تكريم براجباتي من الرئيس الهندي وعديد الجهات والمنظمات.

الكوز.. آنية تقليدية " للماء الحي "تنافس الوسائل الحديثة
صورة لثلاجة الفخار

اذن يبدو ان الكوز ذلك الآنية التقليدية التراثية يمتلك القدرة على مقاومة الزمن ومحاكاة الوسائل الحديثة ومنافستها رغم التباين في من يؤيد ومن يرفض استخدامه كوسيلة لحفظ وتبريد مياه الشرب، ويظل أحد المعالم الثقافية المهمة في حياة الأسر.

مقالات مشابهة