المشاهد نت

يوم رمضاني في تعز جولة في اسواق المدينة

سوق الشنيني

المشاهد ـ غيداء المُليكي ـ خاص:

يوم يعد صباح الحالمة الرمضاني هادئاً كالعادة، عكرت قذائف الموت صفوه، وهدَّ الغزاة الجدد سكونه، جعلوه عذاباً آخر، تضاعفت فيه معاناة السكان، وتعاظمت مُصيبتهم، وما من يوم يمر إلا ويسقط فيه عدد من الضحايا، وتعز كعادتها قوية صلبة، لم يعد يرهبها لون الدماء، لم يعد يرعبها صوت الفناء، لم يعد يفجعها موت فقد أدمنت كفاها دفن الشهداء.

 

رغم مرارة الحرب، وقساوة الحصار، لم تتغير طقوس سكان تعز الرمضانية، ألفوا أصوات القذائف، وتعايشوا معها، واتجهوا كالعادة صوب الأسواق والمساجد، ملأوها بضجيجهم وتسبيحهم، وعادوا إلى منازلهم، وكلهم شوق ليوم رمضاني آخر.

رزق رمضان

في الصباح الباكر، الشوارع تبدو مقفرة، الهدوء يملأ المكان، إلا من أصوات القذائف، ولعلعة الرصاص، ليبدأ من بعد أذان الظهر، توافد المارة والمتسوقين، المحلات التجارية تفتح، والباعة المتجولون ـ بشقيهم «المنتظم» و«المستجد» ـ ينتشرون، الزحام سيد الموقف، يمد المدينة بالحياة، ويغدق على طالبي الرزق الحلال بما قسمه خالقهم.

على إحدى فتحات شارع «التحرير الأعلى» الفرعية، يقف الحاج/ قاسم الوصابي جوار «عربيته» المثقلة بالملابس، وعلامات الحبور والسرور تشع من وجهه، مشغول بمساومة المشترين، أخذت من وقته المزحوم دقائق معدودة، ومما قاله: «السوق في الأيام الماضية كان راقد، والآن الحمدلله الكل يطلب الله، ورمضان ما يجي إلا هو ورزقه».

أكلات مؤقتة

ثمة تغيير مُستحدث على أبواب «المطاعم، والحلويات، والبوفيهات»، وبعض «البقالات»، وحد رمضان بضاعتها: «سنبوسة، باجية، رواني، مشبك… إلخ»، لتعرض جميعها فوق دواليب صنعت خصيصاً لذلك، علي القباطي «صاحب حلويات»، قال أن الطلب على الحلويات المعروفة يقل خلال شهر رمضان، بفعل الأكلات الرمضانية المؤقتة.

الزجاج هنا فاصل مرحب به، يحمي تلك المأكولات من تلوث الشارع، وفي الوقت الذي يتفانى الباعة «المستقرون» في استخدامه، فإنه ينعدم عند منافسيهم «المتجولين»، والسعر ولا شيء غيره، هو الفيصل في كساد تلك البضاعة من تلك.

باعة تقليد!!

بعض المحلات التجارية الرابضة في قلب المدينة، شوهت الشارع واحتلته عن سبق اصرار وترصد، عبدالعزيز الحبيشي يتهم أصحابها باستحداث عربيات مفخخة بالبضائع الكاسدة، يؤتى بها من الأبواب الخلفية، ليتولى تسويقها باعة متجولين تقليد، في لعب واضح بعقول المتسوقين، الذين تنقاد نفوسهم لبضاعة الشارع، بحجة أنها أرخص.

ينفي عبدالرحمن مهيوب «صاحب محل ملابس» تلك التهمة عن نفسه ومحله، مؤكداً أن كل التجار في رمضان مستفيدون، ومن يستخدم ذاك الاسلوب مريض نفس، وغير قنوع.

أزمات خانقة

في ظل الحرب والحصار، لا يحمل رمضان للتعزيين أجواء روحانية فقط، فهو يُغدق عليهم بأزمات خانقة، يتفنن شياطين راس المال في صناعتها، فيما المواطنون البسطاء مشغولون بمتطلبات حياتهم اليومية، مستنفرين على قدم وساق، وجيب أيضاً.

ياسر الزكري «تاجر جملة»، لم يبدي استغرابه من إقبال الناس على المواد الغذائية والاستهلاكية، لأنه مشهد تعود عليه، يتكرر كل عام، كما لم ينس في آخر حديثه أن يحذر المشترين من عدم الاستعجال في شراء المواد الغذائية ـ خاصة المعلبات ـ إلا بعد التأكد من مدة الصلاحية، منبهاً في الوقت ذاته من وجود مواد غذائية منتهية الصلاحية، يستغل التجار الجشعون قدوم شهر رمضان فيضخوها إلى الأسواق، والضحية في الأول والأخير المواطن المخدوع بسعرها الرخيص، وبريقها الأخاذ.

لاحظت أثناء جولتي الاستطلاعية الزحام الشديد أمام «بائعي التمور»، ومما تبادر إلى سمعي تذمر عدد من المشترين من ارتفاع اسعاره، يقول عبدالقوي سلطان «بائع تمر»، إن الكميات التي تصلهم من تجار الجملة محدودة، بحجة عدم وصول كميات كافية إلى الأسواق، وهذا باعتقاده أدى إلى ارتفاعها، خاصة مع ازدياد الطلب عليها.

إقرأ أيضاً  استعادة زراعة وتصدير البصل في المخا

 «كـم لنـا راقـدين؟!»

كانت لي جولة على الفتحة الممتدة من شارع «التحرير الأعلى» إلى شارع «التحرير الخلفي»، تحديداً أسفل «جامع السقاء»، لم يتبادر إلى سمعي إلا أصوات الأواني التي بدأت تتزحزح بثقل المساومة مع الزبائن، كانعكاس فعلي لانتعاش بدأ يعيشه ذلك السوق، بالمصادفة سألت صاحب أحد المحلات ـ مازحاً ـ «ليش اسعارك غالية عادني أخذت… بـ….»، فكانت اجابته: «نشتي نعوض كـم لنـا راقـديـن!؟».

هذا الأسلوب المتنافي مع قيمنا واخلاقنا لم ينحصر على صاحب الأواني فحسب، بل هو منتشر بتعميم شيطاني عنوانه «كم لنا راقدين؟!»، والضحية نحن جميعاً، يشدنا الزحام، ويتلقفنا التجار كـ «الكرة»، وطبعاً تختلف ركلة عن ركلة، إلا أن المرمى واحد!!.

وجدي الزغروري ينصح زملائه المتسوقين: «ساوم، ثم ساوم، ثم ساوم، إلى أن يناديك صاحب المحل من وسط الشارع: خلاص ارجع!!».

عُشاق زحمة!!

يتهم توفيق أحمد، المواطنين اليمنيين بأنهم مجبولون على عشق الزحمة والطوابير، وما توجه الجميع صوب «المركزي»، وفي وقت واحد، إلا نتاج فعلي لذلك.

في المقابل، أرجع محمد عبد الودود من سكنة «حارة الجمهوري»، سبب تسوقه في «المركزي»، على الرغم من وجود سوق صغير في حارته، إلى فارق الأسعار، فتجار حارته مغالون، كما أنه يرتاح في الزحمة، يتفنن في مساومة الباعة، وإذا لم يقتنع بسعر أحدهم توجه صوب الآخر، وهكذا دواليك.

ساحة إختبار

زحمة ما قبل الإفطار، مشهد رمضاني يلقي بظلاله على أسواق تعز الضيقة، التي صارت في ظل «مدرسة الصوم» ساحة اختبار كبيرة لجموع المُتسوقين، معيار النجاح فيها السيطرة على زمام النفس، وعدم الغضب، والتعامل مع الآخرين بروح رياضية.

مع اضطرار ألزمه إياه موعد خروجه من العمل، يستغل مكرم عبدالحميد ما بقي له من وقت في التسوق في «المركزي»، يشاركه التسوق زميله معاذ الذبحاني، الذي أكد أن سوق واحد لا يكفي، وان الدخول إلى السوق بعد ساعات العمل مُتعب جداً، واجتماع الإرهاق مع الجوع يولد توتراً وقلقاً شديداً.

تدخل «مكرم» ساخراً: «لا تستغربوا إذا سمعتم مصياحة هنا، أو ملباجة هناك، فهي كثيراً ما تحدث في رمضان، خاصة قبل الإفطار!!».

«المشي أخرج!!»

استغنت سيارات الحالمة هذه الأيام عن خدمات شارع «التحرير الأعلى»، وعما قريب ستعلن استغناءها عن شارعي «التحرير الأسفل» و«ستة وعشرين»، بالإضافة إلى بعض الشوارع الفرعية القريبة منها.

وبعد عصر كل يوم رمضاني يصعب على البشر تخطي تلك الشوارع، كما يصعب على السيارات تجاوز الشوارع الأخرى، بالأخص شارع المدينة الرئيسي «جمال»، وبعد طول انتظار، تأتي السرعة كحل يفعله كثيرون لملاحقة الإفطار، وعواقب ذلك احياناً تكون وخيمة.

الدراجات النارية هي الأخرى، شريك رئيسي في ذلك الزحام، خاصة بعد أن تضاعفت أعدادها، وصارت كالجراد المنتشر، تجوب الشوارع وتصم بأزيزها الآذان، والأعجب أن أغلب المواطنين غير راضين عن خدماتها، فهذا ماجد عبدالجليل، يقول: «ما فيش فائدة منها، لأن خروجها من تلك الزحمة الشديدة أمر صعب، والمشي أخرج!!».

وسيأتي رمضان

تعز، مدينة حالمة نابضة بالحب، مصرة على الحياة، تثبت للجميع أنها قوية صلبة، عصية على الإنكسار، تبحث كل يوم عن فرحة إنتصار، ترقب بصبر لحظة التحرير الشامل، وعيونها على المستقبل، تحجز لها في أجندته مكان، ولأن دوام الحال من المحال، سيمضي رمضان، وسيأتي رمضان آخر، وتعز وسكانها حتماً سيكونون في أحسن حال.

مقالات مشابهة