المشاهد نت

مدارات المطاوعة… هل يتأسلم اليمن وتتدمقرط السعودية؟

المشاهد- علي سالم المعبقي :
في 11 مارس 2002، شبّ حريق في مدرسة للبنات في مدينة مكة المكرمة فأخذت التلميذات ومعلماتهن يتدافعن هرباً من النيران، لكن المطاوعة (الشرطة الدينية)، حراس البوابة، منعوا بعضهن ممّن لم يتمكنّ من حمل عباءاتهن معهنّ من الخروج، ما أدى إلى مقتل 15 طالبة.
عقب تلك الحادثة، قرر الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز نقل تبعية مدارس البنات إلى وزارة التربية والتعليم بدلاً من “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي مثلت على مدى ثمانية عقود الوجه الأكثر رعباً وإظلاماً في المملكة، مزاوِجةً بين الجمود الديني والاستبداد السياسي، على ما يصفها خصومها.
منذ وصوله إلى السلطة، اتخذ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خطوات وُصفت بالإصلاحية واستهدفت نزع أنياب المؤسسة الدينية. لكن نجاح هذا التوجه، ناهيك عن جديته، ما زال في حكم المجهول حسبما تقول لرصيف22 أستاذة العلوم السياسية في جامعة زيوريخ إلهام مانع، مشيرةً إلى استمرار اعتقال ناشطين ومدونين مثل رائف بدوي.
مدارات المطاوعة... هل يتأسلم اليمن وتتدمقرط السعودية؟
حراسة البوابة : الماركسيون في الجنوب والقوميون والزيديون متأثرون بنظرية ولاية الفقية.

علاوة على الوهابيين، عرفت دول الجزيرة العربية ثلاثة أنماط من حراس البوابة : الماركسيون في جنوب اليمن، والقوميون والزيديون المتأثرون بنظرية ولاية الفقية في شماله. تباينت هذه الأنماط وتصارعت إلا أنها تلاقت على وأد الحرية وإقصاء الآخر.
بعد ثلاث سنوات حرب، تبدو السعودية وقد فتحت نافذة في كهف سياسي ديني قلما وجد شبيهاً له في الألفية الثالثة، بينما لا يزال الظلام المادي والمعنوي يتهاطل على اليمنيين حتى سد مسامات حياتهم وتفكيرهم سلطة ومجتمعاً.
لا وجه للمقارنة بين اليمن والسعودية لجهة النظام السياسي، فالجارة الكبرى لليمن ما زالت تتوارث حكمها عائلة واحدة ، غير أن مجتمعها يتطور بشكل يفوق كثيراً تطور المجتمع اليمني الذي تفكك، بعد نصف قرن على الجمهورية و27 سنة على النظام الديمقراطي، إلى عصبيات مذهبية وجهوية.
لا يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الحديدة ناصر محمد ناصر أي أفق لاستعادة العمل بالديمقراطية على المدى القريب في اليمن. “مطالب الأمن والاقتصاد واستعادة الدولة هي أولويات اليمنيين الراهنة والصعبة”، يقول لرصيف22.
في 26 مارس 2015، أُعلن في الرياض عن تشكيل تحالف عربي بقيادة السعودية هدف، بحسب ما صدر عنه، إلى دعم الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وإنقاذ الشعب اليمني من قبضة ميليشيا الحوثيين الانقلابية، بيد أن جردة لثلاث سنوات أعقبت عمله تبيّن أن الحرب خدمت إيران والنظامين السعودي والإماراتي وأطفأت حلم اليمنيين الذين خرجوا عام 2011 إلى الشوارع مطالبين بالتغيير.
إضافة إلى مقتل أكثر من 14 ألف مدني وتفشي المجاعة والكراهية، تسببت الحرب التي أشعلها الانقلاب المسلح الذي نفّذته مليشيا الحوثيين المدعومة من إيران والقوات العسكرية الموالية للنظام السابق، في تقطيع أوصال البلد العربي الأفقر، ما جعل استعادة اليمن الموحد في حكم المجهول، خصوصاً مع بروز توجه إماراتي لفصل الجنوب عن الشمال، على ما يرى ناصر وآخرون.
بعد لحظة استثنائية في الربيع اليمني تمثلت في مؤتمر الحوار الوطني (مارس 2013 – يناير 2014)، وبينما كانت الاستعدادات تجري للاستفتاء على دستور جديد، فجأة، قلب حراس الطائفية من الحوثيين ظهر المجن لنتائج الحوار الذي كانوا جزءاً منه، وحوّلوا الخلافات إلى اقتتال هو الأسوأ منذ حرب صيف 1994 التي جاءت أيضاً بعد توافق عبّر عن توقيع وثيقة العهد والاتفاق.
مثلما منع حراس مدرسة بنات مكة رجال الإطفاء والمسعفين من إنقاذ التلميذات المحاصرات حرصاً على حشمتهن، كذلك تركت الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية البلد العربي الأفقر يتفجر، يدفعها إلى ذلك وهم غربي بدأ مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، يرى في الحرب حلاً لمشكلة التطرف الإسلامي، وسبيلاً لإعادة هيكلة البلدان الفاشلة.
مع انهيار الدولة اليمنية، باتت سماء اليمن مفتوحة أمام واشنطن لتضاعف ضرباتها الجوية، بيد أن الطابع المذهبي لانقلاب الحوثيين وفّر تربة خصبة لنشاط القاعدة وداعش. وما يزيد طين العنف بلة دعم الإمارات جماعات سلفية باتت قوة ضاربة وقنبلة موقوتة لإرهاب محتمل قادم، مثل قوات “الحزام الأمني” في الجنوب وجماعة أبو العباس في تعز وهو الذي وضعته واشنطن ضمن قائمة ممولي الإرهاب.
تشكك مانع بإمكان نجاح الحرب على الإرهاب في اليمن والخليج ما لم تشمل أيضاً الحركات السلفية والإخوانية. “القاعدة وداعش هما ثمرة الزواج بين التيار السلفي والتيار الإخواني”، تقول مانع التي صدر لها أخيراً بالألمانية كتاب بعنوان “داعش التي فينا”.
مدار العلمنة
شكل الرفاه الاقتصادي الذي شهدته المجتمعات الخليجية بعد اكتشاف النفط رقية ضد وباء الوهابية وقيودها. فخلافاً للمجتمع المدني اليمني الذي تخندق خلف متاريس علي ومعاوية، وبعضه انتقل من ساحة المطالبة بإسقاط النظام إلى نصير للانقلاب على ثورة الشباب، وفّر الرفاه للسعوديين ساحة مقاومة تجري تحت السطح وعبر الأفكار.
يرصد مؤلف كتاب “عرب بلا رب” براين ويتاكر كيف يعمل الانغلاق السياسي والديني على التحوّل من التديّن إلى العلمنة، مستشهداً بطلاب سعوديين تحوّلوا إلى ملحدين بعد أن اكتشفوا أثناء دراستهم في الخارج أن الغرب ليس ذلك الشيطان الذي رسمته في أذهانهم قنوات التعليم والإعلام والمسجد. وهو ما سبق واكتشفه الإمام محمد عبده أثناء رحلته إلى فرنسا.
تتفق مانع وناصر على أن دمقرطة شمال الجزيرة ما زالت بعيدة لكن “السعودية ذات القوانين الشفافة الضامنة لمشاركة الجميع في صنع القرار” كما تمناها بن سلمان ربما تظهر تدريجياً من نضج مجتمعي ما فتئ يناضل من أجل دولة المواطنة. ولئن غابت قنوات المشاركة السياسية يبقى “تويتر” فضاء جدل خليجي بامتياز.
تخشى مانع من ردة فعل عنيفة قد تواجه بن سلمان في معركته مع المؤسسة الدينية. لكن الوقائع التاريخية تبيّن أن خضات العنف غالباً ما تفضي إلى تغيير إيجابي على ما يوثق روبرت ليسي في كتابه “المملكة من الداخل”. هذا في وقت يبدو العنف في اليمن القاعدة والاستقرار استثناء، وهو أمر عطل قانون التراكم المدني والسياسي.
مدار التبعية
يطلق اليمنيون اسم “محوى” على مجمعات سكن الفئة الأكثر تهميشاً وفقراً، والمعروفة باسم “الأخدام”. لكن هذه النظرة التمييزية قلما أدركت أن ضعف ولاء النخب السياسية المدمنة على السلطة قد حوّل البلد كله إلى “محوى خليجي إيراني”، على ما تصفه الانتقادات الشعبية المتذمرة من انسحاق الأحزاب اليمنية تحت عجلة الولاء للخارج.
ترى مانع أن تحوّل اليمن إلى كانتونات مذهبية وجهوية جاء نتاج عقود من نشر فكر الإسلام السياسي، بصورتيه السنية والشيعية، والذي شاركت فيه دول إقليمية مثل السعودية وإيران من خلال دعم جماعاته مالياً وفكرياً وهيكلياً.
إبان الحرب الباردة، شكّل اقتصاد التبعية لواشنطن أو موسكو رأس مال النظام العسكري القبائلي في الشمال والنظام الاشتراكي الشمولي في الجنوب. ومع انهيار جدار برلين، دفعت المتغيرات الجديدة النظامين المتصارعين بالوكالة إلى الوحدة التي شهدت تصدعات كبيرة على خلفية الثقافة الشمولية للأحزاب وتحوّل بعضها إلى مليشيات.
إضافة إلى البنى المجتمعية وطبيعة الثقافة السياسية والدينية، يشكل شح الموارد عاملاً في عدم الاستقرار في اليمن المعتمد أصلاً على دعم مجموعة أصدقاء اليمن. ومن شأن الصعوبات التي تواجهها الاقتصادات الخليجية أن تؤدي إلى تقليص دعم موازنة الحكومة اليمنية إلى أدنى مستوى، على ما يقول لرصيف22 أستاذ الاقتصاد في جامعة عدن يوسف سعيد.
يذكر سعيد أن المسألة لا تتعلق فقط بانعكاس الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها دول الخليج بل ترتبط أيضاً بحساباتها السياسية، لافتاً إلى توقف قطر عن دفع التزاماتها المالية بسبب موقف الحكومة اليمنية المؤيد لما يسمى بالدول المقاطعة لقطر.
بوصلة حراس الإيديولوجيات لا تقف عند التأرجح شرقاً وغرباً، بل تنطوي خطاباتها أحياناً على مفارقات بعضها لا يخلو من طرافة.
ظلت إيران ووكلاؤها في المنطقة يتهمون السعودية بحضانة الإرهاب وعندما اتجه بن سلمان إلى محاربة التطرف نعنته الإعلام الإيراني بالعلماني “المنبطح لدول الكفّار”.
المصدر : رصيف 22

مقالات مشابهة