المشاهد نت

أن تكون طبيباً يمنياً… المال أولاً!

نقلا عن درج – عبدالقادر عثمان :

أنت طبيب خطير جداً، استطعت أن تجمع 300 ألف ريال يمني (500 دولار أميركي) في ظرف أسبوع فقط. أنا ما قدرت أجمع حتى النصف”، عبارة شدت انتباهي من على الطاولة المقابلة في مطعم شعبي وسط العاصمة صنعاء، في حوار بين ثلاثة شباب يرتدون ملابس أنيقة وعلى صدر أحدهم تتدلى سماعة طبيب.

بدا لي الشباب في الوهلة الأولى طلاباً لم ينهوا مرحلة تعليمهم الجامعي، واستنتجت بعد حين أنهم تخرجوا حديثاً وتعاقدوا مع مستشفيات خاصة معروفة.

انهمك الشباب في حوارهم عن مستوى الدخل المتباين بينما أكملت تناول قطعة السمك التي اشتريتها بما تبقى من مصروف يومي الحزين كصحافي في مقتبل حياته المهنية.

في بلاد كاليمن، ما أن يصل الطالب المتفوق مرحلة التعليم الثانوي حتى يفكر في الطب، فأن تصبح طبيباً معناه أن تكون من ذوي الدخل المرتفع، أن تركل الفقر الذي يعاني منه بقية أبناء المجتمع بقدم من ذهب، وأن ينمو رصيدك من دون الالتفات إلى من سحقتهم المجاعة واعتصر الجوع أمعاءهم وأنحل السقم ما تبقى من أجساد بلا مناعة.

قبل أشهر قليلة كنت بين مجموعة من الشباب في إحدى الاستراحات في المدينة ذاتها ننتظر مباراة كرة القدم لمنتخبنا الوطني، حين استعار أحد الجالسين بجواري ولاعتي لإشعال سيجارته، إذ علّق أحد أصدقائه مازحاً بسخرية: “دكتور ومدخّن ولا تملك ولّاعة، والله عيب عليك!”، ثم غاص الجميع في الحديث عن الدخل اليومي لكل منهم.

كانوا جميعاً أطباء باستثناء واحد. قال أحدهم إنه يتقاضى من منظمة دولية 1200 دولار (720 ألف ريال)، كما يأخذ من المرضى بدل أتعابه، على رغم أن الخدمة التي يقوم بتقديمها مجانية، تغطيها المنظمة العاملة في ظل الحرب للتخفيف من معاناة المتضررين.

أن تكون طبيباً يمنياً… المال أولاً!

في الجهة المقابلة لنا، أخرج أحدهم مبلغاً من حقيبة زميله بشكل مفاجئ، قال إنه دخل يوم للزميل!

نظر الجميع إليه باستغراب، بينما لاحظت ملامحه تزداد زهواً ويطول عنقه حتى كاد يصل إلى سقف الخيمة.

قد يبدو الأمر قريباً من الهراء، لكنها حقيقة لن تتعرف إليها إلا إن كنت مريضاً في اليمن، فثمة من يطلب منك مبلغاً باهظاً، مقابل أن يسمع شكواك من ألم في الرأس أو من انتفاخ في المعدة أو حتى احتقان في الأنف!

فحوصات بالجملة

في مستشفى خاص في مدينة صنعاء، ذهبت إحدى صديقاتي برفقة أختها التي تشكو من ألم في معدتها، لكنها غادرت المستشفى كما دخلتها، من دون إجراء أي فحص. لقد منحها الطبيب ورقة لإجراء فحوصات بـ30 ألف ريال (50 دولاراً)، إلى جانب ذلك دفعت مبلغاً قدره ثلاثة آلاف ريال مقابل الدخول عند الطبيب.

هذه الأسرة كعشرات آلاف الأسر اليمنية لا تستطيع توفير هذا المبلغ خلال شهر كامل، ففرص العمل تكاد تكون معدومة، بينما يستمر انقطاع المرتبات عن الموظفين في القطاع العام منذ ثلاث سنوات.

كثيراً ما يواجه اليمنيون الموت على أعتاب المستشفيات الخاصة، بخاصة بعد لجوئهم إليها من جراء الازدحام في المستشفيات العامة التي امتلأت بجرحى الحرب. فحين يقرر أحد أقارب المريض نقله إلى مستشفى خاص يكون المال أكبر كابوس يحيط بهم، عند بوابة المستشفى ستمنع الحراسة دخول مريضك قبل دفع مبلغ التأمين أو احتجاز سيارتك أو سيارة أحد المتعاونين معك.

إقرأ أيضاً  عملة معدنية جديدة.. هل فشلت جهود إنهاء الانقسام النقدي؟

طبيب سفّاح

الأكثر بشاعة من ذلك ما حصل أخيراً في منطقة شرعب وهي واحدة من مديريات محافظة تعز وسط اليمن، قال لي أحد الزملاء الصحافيين إن “فتاة كانت تعاني من تضخم في الغدة الدرقية، فأسعفها أهلها إلى مستوصف خاص في مركز المديرية”، وأضاف أن الطبيب الذي وصفه بالسفاح أجرى لها فحصاً، “وأخبرهم أن ليس من داع لنقلها إلى تعز أو إب”؛ لأنه قادر على إجراء العملية في عيادته.

أثناء العملية، وبعد استلام المبلغ، حدث نزيف حاد للفتاة، وحين شعر الدكتور بخروج الأمور عن سيطرته، قام بخياطة مكان العملية أي العنق، وأعاد المبلغ إلى أهل المسكينة طالباً نقلها إلى محافظة تعز، كي يتدارك نفسه ويواري الفضيحة.

أضاف صديقي: “مباشرة توجه أقارب الفتاة نحو تعز، إلا أنها فارقت الحياة في الطريق، ماتت الضحية بهذا الشكل الصادم تاركة خلفها قصة موت فادح على أيدي أشخاص يفترض أنهم أكثر البشر إنسانية وحساسية حيال متاعب الناس”.

كثيراً ما يواجه اليمنيون الموت على أعتاب المستشفيات الخاصة، بخاصة بعد لجوئهم إليها من جراء الازدحام في المستشفيات العامة التي امتلأت بجرحى الحرب.

الحرب التي يشنها التحالف بقيادة السعودية والإمارات على اليمن خلال خمسة أعوام، ساهمت بشكل كبير في تردي الوضع الصحي بشكل كارثي، ما جعل البلاد عرضة لأوبئة وأمراض كالكوليرا والدفتيريا وداء الكلب والحصبة وأنفلونزا H1N1، وأعلن اليمن بموجب ذلك أسوأ كارثة إنسانية معاصرة في العالم.

اتفاقات غير أخلاقية

يتعامل أطباء كثيرون، مع أصناف معينة من أدوية إحدى الشركات مقابل نسبة من المبيعات، حتى أن كثراً منهم أصبحوا يتعاملون مع صيدليات محددة عبر شيفرات لا يستطيع قراءتها سوى صيدلي واحد، تم الاتفاق معه، ولهذا تجد اختلافاً بين صيدليتين متجاورتين في سعر صنف معين من الدواء.

إلى جانب ذلك، فإن مستشفيات خاصة تبرم عقوداً مع الأطباء مقابل راتب ونسبة من قيمة دخل الفحوصات، ما يعني أن زيادة الفحوصات للمرضى تزيد من نسبة دخل الطبيب.

الحرب التي يشنها التحالف بقيادة السعودية والإمارات على اليمن خلال خمسة أعوام، ساهمت بشكل كبير في تردي الوضع الصحي بشكل كارثي

وزارة الصحة في حكومة صنعاء (التابعة للحوثيين) أجرت تصحيحات كثيرة في الاختلالات التي يعاني منها المجال الصحي في اليمن، كمنع التعامل مع العاملين في هذا المجال من دون الحصول على ترخيص مزاولة المهنة، إلا أن الذين خاضوا الامتحانات حصلوا جميعاً على ترخيص!

كما أغلقت الوزارة بعض المستشفيات الرديئة، بينها واحد زرته قبل أشهر وفضّلت الموت على الاستشفاء فيه، كما أنذرت نحو 25 مستشفى بالإغلاق، لكن أياً من القرارات والتصحيحات لم تلتفت إلى معاناة المرضى من جشع الأطباء واستخفافهم بالأرواح.

أتذكر أنني كنت أريد أن أصبح طبيباً. شجعني والداي على الالتحاق بكلية الطب حين أتخرج من الثانوية، من أجل تحسين دخلنا المادي في قرية بعيدة من العالم، لكنني وجدت نفسي في عالم الصحافة، تاركاً حلم أسرتي وراء ظهري.

ربما لو كنت طبيباً لما التفتُّ إلى ما يفعله الأطباء بالمرضى، لعلي كنت أكثر رفاقي ثراءً… لكنني في كل حال لست نادماً!

مقالات مشابهة