المشاهد نت

تعز… عزف الموسيقى على أنقاض المباني المدمرة

تعز – منال شرف:

كثيرة هي المرات التي حاول فيها الشاب أمجد عادل، أن يترك عزفه على آلة الجيتار الموسيقية الخاصة به، لكنه يعود في كل مرة أشد ارتباطاً وتعلقاً بها وبالموسيقى، برغم بيئته الطاردة للفن، وما تعانيه محافظته “تعز” من حرب وحصار خانقين.
أمجد واحد من قليلين وجدوا في الموسيقى غذاءً للروح، وضرورة تتوحد عندها المجتمعات الإنسانية، برغم اختلاف ثقافاتها ورؤاها، فراحوا يكسرون ثقافة المجتمع المغلوطة عن الفن، بعزفهم على الآلات الموسيقية، وإطلاع الآخرين على قدراتها العبقرية.
أحب هذا الشاب، العزف على جيتاره؛ بداية لتهدئة نفسيته المتعبة، ثم صار يعزف في مختلف الأمسيات والفعاليات التوديعية والثقافية، رغبة في إسعاد الجماهير وإطرابهم، يقول: “بإمكان الموسيقى أن تصل إلى أعماقنا المثقلة، لتتفاهم معها، كما تفعل معي شخصياً”.

العلاج بالموسيقى

ليس أمجد وحده من يرى في الموسيقى وسيلة للعلاج والترويح عن النفس؛ فقد ذكرت دراسة طبية، أجريت على عدد من المصابين بالصدمات النفسية، أن 80% منهم شعروا بالتحسن بعد الاستماع للموسيقى، بدرجة أكبر من مفعول الأدوية التقليدية التي اعتادت المستشفيات على استخدامها في علاجهم، وذلك بناء على ما نشرته مدونة “ريف برهومة”، في تقريرها “ألحان تعالج أوتار الألم”.

للأنشطة القائمة على الموسيقى، دورها الإيجابي في علاج كثير من حالات الانطواء والسلوكيات الانسحابية واضطرابات الاكتئاب التخريبي، وغيرها من الأمراض النفسية التي ظهرت، مؤخراً، نتيجة للحرب، علاوة على أنها تسهم في بناء ثقة أفرادها وتلاحمهم، وتعديل سلوكياتهم الخاطئة


وتؤكد الأخصائية في برامج الدعم النفسي للأطفال، كرامة الكامل في حديثها لـ” المشاهد” ، أن للأنشطة القائمة على الموسيقى، دورها الإيجابي في علاج كثير من حالات الانطواء والسلوكيات الانسحابية واضطرابات الاكتئاب التخريبي، وغيرها من الأمراض النفسية التي ظهرت، مؤخراً، نتيجة للحرب، علاوة على أنها تسهم في بناء ثقة أفرادها وتلاحمهم، وتعديل سلوكياتهم الخاطئة، والتنفيس الإيجابي عنهم؛ لما تتطلبه من وحدة وتآزر في الأصوات والإيقاعات.
وبحسب الكامل، فإن أغلب الأنشطة المنفذة ضمن برامج الدعم النفسي للأطفال باليمن، تقتصر على تأديتهم الأناشيد المسجلة والرقص، ولا تشمل تأهيلهم على العزف بالآلات الموسيقية، وعلى الصنوف الإبداعية الأخرى التي من شأنها أن تسهم في تحسين نفسية المريض، وإعادة دمجه بالمجتمع.
ويرجع الفنان اليمني محمد عبدالرقيب، أسباب ذلك، إلى قلة الوعي بأهمية الموسيقى وقدراتها، وعدم وجود حركة ثقافية فنية موسيقية ترفد مثل هذه الخطط الطموحة، كما أن المشتغلين في هذا المجال هم قلة يعملون بما تيسر لهم، في محيط مجتمعي مشوه ثقافياً وفنياً.

كيف أثرت الحرب على ذائقة الناس؟

ويعتبر جيل التسعينيات، وقود الحرب الحاصلة، اليوم، لنشأتهم وفق تربية خالية المضمون من الجماليات عموماً، والفن خصوصاً، بحسب الموسيقار محمد العريقي، مضيفاً: “لو أن شاب التسعينيات حصل على تربية جمالية منذ

الفجوة الكبيرة التي تكونت بين جيل التسعينيات حتى الآن، وبين موروثهم القديم، بالإضافة لما خلفته الحرب من انهيار في كل المستويات، أدت، في مجملها، لانحدار ذائقة الناس السمعية، وتفشي بعض المظاهر المشوهة؛ كاستخدام الزوامل الشعبية بتسارع أكبر من لغتها الموسيقية الحقيقية.

الصغر، لكان سيفكر ألف مرة قبل أن يحمل الـ”آر بي جي”، ويدمر ما يجد أمامه من أشجار أو مبانٍ ومنشآت حكومية أو خاصة. حتماً ستختلف نظرته للأشياء حوله، وسيكون بوسعه رؤية ما تحمله من معانٍ وأبعاد جمالية”.
ويفيد العريقي أن الفجوة الكبيرة التي تكونت بين جيل التسعينيات حتى الآن، وبين موروثهم القديم، بالإضافة لما خلفته الحرب من انهيار في كل المستويات، أدت، في مجملها، لانحدار ذائقة الناس السمعية، وتفشي بعض المظاهر المشوهة؛ كاستخدام الزوامل الشعبية بتسارع أكبر من لغتها الموسيقية الحقيقية، وبعكس ما كانت عليه من رزانة في الشكل والمضمون والبناء.
ويشير عبدالرقيب إلى ضرورة تهذيب الذائقة الموسيقية للنشء، وتربيته عليها منذ طفولته؛ لبناء شخصية سوية ومتزنة تسهم بإيجابية في تطور المجتمع وبناء الوطن على أسس علمية سليمة، كون البعد الجمالي إحدى أهم استراتيجيات النهضة المجتمعية والفردية.

إقرأ أيضاً  رمضان ومعاناة النازحين في مأرب

العزف على أنقاض حي الجحملية

وشهدت محافظة تعز، في الآونة الأخيرة، إقبالاً شعبياً كثيفاً على الفعاليات الموسيقية التي ينظمها مكتب الثقافة بالمحافظة، في مختلف المناسبات الوطنية والعالمية، والتي كان آخرها العزف على أنقاض حي الجحملية وركامه (حي جنوبي شرق مدينة تعز، تعرض للقصف من قبل الأطراف المتحاربة، قبل أن تسيطر عليه القوات الحكومية في سبتمبر 2015). وهو ما يؤكده مدير مكتب الثقافة عبدالخالق سيف، بقوله: “إن تعز تغني، اليوم، للسلام، وتقدم أعمالاً تمجده وتدعو له؛ لتخبر العالم بقصة المدينة المسالمة، وعن ذلك الأمل الذي ينمو من بين الشظايا والركام، ولكون الموسيقى لغة مفهومة للجميع، ولها القدرة على بناء السلام وإيصال مفاهيمه”.
وبرغم ما تواجهه الموسيقى، حتى اليوم، من مضايقات متطرفة وحاقدة مِن قبل مَن هم أقل إدراكاً للموسيقى وعظمتها، لاتزال المحاولات قائمة في اتجاه إعادة تطبيع الحياة داخل المدينة، وإنعاش جوانبها الفنية والموسيقية، كما يشير سيف، موضحاً لـ”المشاهد” أن مثل هذه الأعمال الفنية بحاجة لإمكانيات واحتشاد كبيرين، ولإيمان فعلي بالفن والثقافة وبقدرتهما على صناعة التغيير الإيجابي.
ولقيت الموسيقى، كسائر الفنون، نصيبها من التهميش والتحريض المقيتين مع بداية الألفية الثالثة، بحسب العريقي، فبعد أن كانت المدارس في الثمانينيات، تزخر بالآلات الموسيقية والمراسم والصالات الرياضية وأقسام التدبير المنزلي والزخرفة والأعمال اليدوية، أصبحت المناهج التعليمية مفرغة من هذه الجماليات، إلا من مجرد أرقام صورية ليس لها قيمة حقيقية في نتيجة الطالب، ثم تلاها تقليص وتسفير لمعلمي هذه المقررات من المدارس، ومحاربتهم، وإشعار من تبقى منهم بالمهانة والاغتراب الروحي عن واقعه.

مقالات مشابهة