المشاهد نت

هل يمكن أن تعوض الحرب دربوش ساقان وأربعة أشقاء؟

يوسف ناصر دربوش

عدن – علي جعبور :

في الصباح الباكر يصحو يوسف ناصر دربوش (14 عامًا) ويطلب من والده حمله إلى كرسيه المتحرك، ومن شقيقه الأصغر دفعه إلى الجهة الغربية للمنزل “العُشة” المبني من القش.

من هناك يسرح في تأمل المساحات الخضراء الممتدة أمام ناظريه “إنه موعد حصاد البصل” يقول يوسف لنفسه، فيبتهج وهو يشاهد أقرانه يذرعون الطرقات نحو الحقول مع آبائهم وإخوانهم، حاملين المناجل وقناني الماء، والمآزر مشدودة على خصورهم النحيلة وقفف الدوم أو “الظُلل” حسب التسمية الدارجة تظلل رؤوسهم ووجوههم الشاحبة.

يعود يوسف مرة أخرى للتأمل، ولكن لا يذهب نظره إلى الحقول النابضة بالحياة هذه المرة، بل إلى آثار الموت على جسده، حيث سلبه لغم حوثي ساقيه اللتين طالما عبرت تلك الطرقات والمزارع مع أشقائه الأربعة الذين لم يعد له منهم سوى ذكرى أليمة وحزن دائم.

يروي قصته لـ “صوت إنسان” حيث بدأت معاناته وكل أبناء قريته مع وصول مسلحي جماعة الحوثيين عام 2014 الذين تمركزوا في المدرسة الوحيدة بالقرية, واتخذ آخرون حقول ومزارع المواطنين معسكرات لهم، وفي منتصف العام 2017 كانت القوات الحكومية المدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية قد وصلت إلى مشارف قرية الرمة التابعة بمديرية المخا غرب محافظة تعز، عندما كان يوسف في الثانية عشرة من عمره، وبدأت في الاشتباك مع المسلحين، لتصبح حياة السكان في خطر حقيقي، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المدافع والرشاشات والقاذفات الجوية.

يقول يوسف: كانت قريتنا (الرمة) هادئة وكان تواجد الحوثيين في مدرستنا ومزارعنا يخيفنا, لكنه كان قد أصبح أمرًا معتادًا بدأنا التعايش معه، وفجأة بعد قدوم قوات المقاومة تحولت منطقتنا إلى ساحة حرب، وتغير تعامل الحوثيين معنا تمامًا؛ أصبحنا بالنسبة لهم مصدر قلق وساورتهم الشكوك حول احتمالية تعاوننا مع قوات المقاومة ومدهم بالمعلومات، ولذلك بدأوا بمنعنا من الاقتراب من المدرسة ومن المزارع التي يحتلونها ومن خالف ذلك أخفوه في سجونهم”.

يضيف “كان الموت يداهمنا من كل الاتجاهات، ولم يكن بأيدينا حيلة إلا التشرد والنجاة بأرواحنا. نزحنا إلى منطقة يختل المجاورة لنا والتي تسيطر عليها القوات الحكومية ومكثنا هناك حتى  غادر الحوثيين قريتنا في نوفمبر 2017”.

“عدنا بعد ذلك إلى ديارنا في قرية الرمة لنجدها على غير ما تركناها حيث أصبحت المنطقة كلها حقل ألغام, وتحولت المزارع والطرقات والمنازل إلى أماكن خطرة. كل خطوة نخطوها كنا نتوقع أنها الأخيرة, فلا أحد يعرف أين يمكن أن يسير وتكون حياته بمأمن. وكان لا يمضي يوم دون وقوع حادث انفجار لغم يروح ضحيته شخص من أبناء القرية, وكان كل من جازف بالعودة يتوقع أن يكون هو الضحية التالية”, قال.

إقرأ أيضاً  رمضان.. شهر الخير والمبادرات الإنسانية بحضرموت

ويتذكر يوسف “في أحد الأيام، أواخر نوفمبر 2017، قررت أنا وإخوتي الأربعة وابن عمي الذهاب للعمل في إحدى مزارع البصل. استقللنا دراجتي النارية وأردفت أشقائي خلفي وابن عمي أمامي فوق خزان البترول. انطلقنا إلى مسافة خمسة كيلو متر تقريبًا، وفجأة، شعرت بقوة ضغطت هائلة تقذفنا إلى الأعلى مصحوبة بحرارة شديدة وغبار كثيف. كانت تلك لحظة الإدراك الأخيرة لي قبل غيبوبة لم أفق منها إلا بعد أسبوع في مستشفى أطباء بلا حدود في مدينة المخا. سألت أهلي عن إخوتي فقالوا لي أنهم بخير. علمت لاحقًا أن جمال وشمس الدين وتوفيق ورضوان غادروا الحياة للأبد, وبقيتُ مبتور الساقين وابن عمي الذي أصيب بشظية في الصدر ما زال يعاني من أثارها حتى اليوم”.

يطالع الناجي الوحيد من الحادثة اخضرار المزرعة القريبة من بيته كما لو أنه يبحث عن شيء عزيز فقده فيما بات يتطلع إلى عودته دون جدوى. تأخذه تنهيدة الأسى المروع “لم أعد قادرًا على العمل. كل ما أفعله هو اللعب مع الصغار الذين يأخذونني إلى المزرعة المجاورة. أمضي وقتي بها غالبًا، وكلما مللت من المنزل استجدي أحدهم لأخذي إليها”.

أنهى دربوش دراسة الصف الرابع الابتدائي عندما نشبت الحرب بقريته (قرية الرمة التابعة لمديرية المخا) وبعدها توقفت الدراسة “أتمنى أن تفتح مدرستنا أبوابها مرة أخرى لأواصل تعليمي” حيث كان يفترض أن يجلس الآن لامتحانات الصف السابع تقريبًا.

ومع هذه الخسارة الأكثر فداحة, إلا أنها تظل قصة واحدة من آلاف القصص المأساوية لضحايا الألغام والعبوات المتفجرة التي خلفتها الحرب بين جماعة الحوثيين والقوات الحكومية، فمنذ بدء المواجهات وحياة المدنيين في هذه المناطق عرضة للخطر والموت بأي لحظة، إذ حولت الجماعة المسلحة آلاف الهكتارات من مزارع المواطنين إلى حقول ألغام بالإضافة إلى تفخيخ المنازل والطرقات. عديد منظمات دولية ومحلية أشارت إلى قيام الحوثيين بزراعة ما يربو على مليون لغم في محافظة الحديدة الساحلية وحدها، وهو الأمر الذي حول حياة السكان إلى جحيم.

تنشر هذه القصة بالتزامن مع نشرها في منصة ” صوت إنسان “ “وفقا لإتفاق بين المشاهد والوكالة الفرنسية لتنمية الاعلام CFI

مقالات مشابهة