المشاهد نت

إرث اليمنيين” الذي يأملون ألا تطاله الحرب.

تعز – محمد علي محروس :

بقدر تنوعها الثقافي والاجتماعي فإن اليمن ذات إرث غنائي مرتبط بخلفياتها الثقافية والاجتماعية، لكنها من حين لآخر استطاعت الخروج عن ذلك، وتقديم صورة فاتنة عن عمق الجمال الكنهي الذي يتمتع به اليمنيون في كينونتهم.
وتظل مدارس الغناء الحضرمي والصنعاني واللحجي أساسًا لمدارس أخرى تفرعت منها كالتهامية والتعزية والكوكبانية، وعمل أغلب الفنانين على الإلمام بمجمل هذه المدارس؛ لمواكبة ذائقة محبيهم من كافة المناطق.

صورة تشاركية


حتى ثلاثينيات القرن الماضي، ساهمت الطبيعة التضاريسية لصنعاء في أن تبقى على حالها، مُحافِظة على رتم لونها المميز بالعود، ومعزوفاته العتيقة التي أخذت طابعًا يعبر عن صنعاء البعيدة عن المرافئ والعالم يومذاك.. في الضفة الأخرى من البلاد، مثلت عدن

لا ينس اليمنيون محمد مرشد ناجي، أحد أعلام الأغنية اليمنية، ومن أبرز مجدديها، وصاحب تجربة فنية متنوعة تمتد لستة عقود، شارك خلالها في إحياء ونشر التراث الغنائي اليمني الغزير على مستوى اليمن والجزيرة العربية.

ملاذًا للفن والفنانين في كل اليمن، إذ هاجر إليها فنانون من كل المحافظات وخاصة الشمال للتسجيل والاستماع والاختلاط والأداء الحر بعيدًا عن تعقيدات مدنهم حينها والقيود التي تفرضها الثقافة والمجتمع، وهكذا تبلورت توليفة مميزة من الفن اليمني، حتى أصبح له صداه الإقليمي، متصدرًا المشهد الخليجي، فأبوبكر سالم عُرف بـ”أبو الغناء الخليجي”، أما محمد سعد عبدالله فقد ترك بصمته المختلفة بصوته الأخاذ، مجيدًا إلى جانب اللحن اللحجي الشهير الذي ينتمي إليه “الأغنية الصنعانية” وكأنه على صلة وثيقة بها، وهو ما يؤكده شاعر اليمن وأديبها عبدالله البردوني بقوله إن سعد عبدالله – والد محمد- هو من كوكبان أصلًا.
ولا ينس اليمنيون محمد مرشد ناجي، أحد أعلام الأغنية اليمنية، ومن أبرز مجدديها، وصاحب تجربة فنية متنوعة تمتد لستة عقود ، شارك خلالها في إحياء ونشر التراث الغنائي اليمني الغزير على مستوى اليمن والجزيرة العربية.
“هناك مشترك عام في الغناء اليمني بقدر تنوعه، فالثقافة الموسيقية واللحنية مشتركة، فليس غريبًا أن يترنم ابن عدن بألحان صنعاء والعكس، فالجوانب المشتركة هي من تشكل الذائقة”، هذا ما يراه الكاتب والروائي جمال حسن.
ويضيف: “لدينا مثلًا ألحان أيوب، منتشرة من صعدة إلى المهرة، وفي عدن غنى الماس وقعطبي وباشراحيل ومحمد سعد وفيصل علوي اللون الصنعاني، والكبسي في صنعاء غنى اللون اللحجي، وهكذا كل مدرسة تجذب الأخرى ويتداخلان ليشكلا صورة فنية مشتركة”.


نشيد واحد


يعد النشيد الوطني اليمني المثال الأول على التداخل الفني والتقارب الغنائي اليمني، وإن كانت هناك دولتان، فالفن وحد اليمنيين مسبقًا، جمعهم في قالبٍ يُعبّر عن التكامل والتنوع في آن واحد.
كانت كلمات النشيد وأداؤه الأول للثنائي الفني الشهير أيوب طارش عبسي والشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، فقد تم أداء النشيد قبل الوحدة اليمنية بــ13 عامًا، حيث اعتمد نشيد “رددي أيتها الدنيا نشيدي” كنشيد وطني لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب)، بينما الشاعر والفنان من الجمهورية العربية اليمنية (الشمال)، وهو تحوّل إلى نشيد للجمهورية اليمنية (دولة الوحدة) منذ العام 1990 وإلى اليوم.
“إن الفن بشكل عام والغناء والموسيقى بشكل خاص يعززان من قيم المحبة والتعايش والألفة، فالأغنية بجمالياتها ومدلولاتها وما تحمله من مضامين راقية وموسيقى ساحرة تهذب النفس، وتبعث فيها روح المحبة والجمال، وفي هذا الصدد تمثل الأغنية اليمنية ـ بعراقتها وأصالتها وبمختلف ألوانها قِبلة حبٍ لكل عشاق الطرب اليمني”، إلى هذا يذهب محمد سلطان اليوسفي، صحفي مهتم بالفن والأدب اليمني.
“والأغنية اليمنية لأنّها ذات مقومات فنية راقية في كلماتها وفي ألحانها وفي الأصوات التي قدمتها، وفق ما يراه اليوسفي فإنها تلتقي حولها كل القلوب والأذواق في عموم اليمن، واليوم نجد أغاني رواد الغناء اليمني يستمع إليها اليمنيون بفخر واعتزاز، ولا غرو في ذلك فالأغنية اليمنية تجسد هوية الإنسان اليمني وتجسد آلامه وآماله وأحلامه في كل ربوع الوطن”، كما يقول.
وتذهب نسرين قطيشة من محافظة الحديدة الواقعة غرب اليمن إلى “إن جلساتهم اليومية هناك لا تكتمل دون الأغنية الأصيلة، فمنذ طفولتهم تعلّقوا بها، ومنها ارتشفوا حب الوطن”.


تعزيز مبادئ التعايش

وعلى الرغم من تميز كل فنان يمني بنوع معين من الغناء، إلا إن الذائقة اليمنية المشتركة هي من تجسد الأداء بصورته العامة، حتى أن التداخل الحاصل بين الألحان الغنائية يعبر عن اليمن ككل، في صورة تتجلى فيها قيم الوحدة والتعايش والتلاحم المجسدة للكيان اليمني الواحد أرضًا وإنسانا.
إلى هذا يضم فؤاد الشرجبي، رئيس البيت اليمني للموسيقى صوته ويضيف: “الفن اليمني عبر العقود الماضية جسد الكثير من القيم لتعزيز مبادئ التعايش والوحدة والتلاحم بين اليمنيين، وذلك من خلال الأغاني والأناشيد الوطنية ومن خلال أغاني الأرض والإنسان والتي مثلت الانتماء الحقيقي للوطن ولكل شرائح المجتمع، في دعوة واضحة لبناء السلام بالحب والتعاون وزراعة الأرض وبناء الوطن”.
ويستشهد الشرجبي بزمن ما قبل الوحدة إذ يقول: “في عز الصراع الشطري السابق، كان لتنقل الفنانين اليمنيين للغناء في العديد من المحافظات اليمنية الأثر العظيم في تعزيز قيم التعايش وتقبّل الآخر”.
ويرى الشرجبي انعكاس ذلك حاليًا، “فما يحدثه الأثر الفني اليوم في هذا الجيل من الفنانين اليمنيين الشباب، الذين يتغنون بكافة ألوان الغناء اليمني يعكس قوة تأثير الفن، وكيف كان وما زال محل توافق جمعي، حسب تعبيره”.
وبنظره، “فالجميع يتوافق على أيوب طارش عبسي، وكرامة مرسال، ومحمد سعد عبدالله، والآنسي، والمرشدي، وأحمد قاسم، وعطروش، وأحمد فتحي، وقبلهم أبو بكر سالم بالفقيه، والقائمة تطول”.
في صنعاء -شمال اليمن-، لم تكن فاطمة الجرموزي تدرك أهمية الفن في تعزيز حبها لوطنها في ظل الظروف الراهنة، وتقول الفتاة العشرينية: “سماعي لأغاني زمان بأنواعها المكانية وباختلاف الفنانين يعيدني إلى انتمائي المرتبط بالفن المتوارث لحنًا وكلمات، هذا بالنسبة لي لا يقبل المساس في ظل ما نعيشه اليوم”.

إقرأ أيضاً  دور المرأة اليمنية في مواجهة تغيرات المناخ

المفضل دائمًا


يرافق اليمنيين على امتداد خطوط السفر الرابطة بين المحافظات اليمنية، في حلهم وترحالهم، يأخذهم إلى حيث يريدون، ثم يعود معهم، وهكذا يفعل كل يوم، بصوته العذب لحنًا وحبًا وشجنا.
لا ينس مخاطبة كل مسافر على حده:
“يا مسافر ع البلاد بروحي ودمي
سير واتركني هنا لآلام حبي.
كل أحبابي هناك وأهلي وصحبي
يذكروني فإني على ذكرهم دوم.
حين سافرت سافرت مغصوب”.

هذه الأغنية للفنان أبو بكر سالم محل إجماع كل مسافر يمني، بل يشترطها كثيرون على سائقي وسائل النقل قبل الصعود إليها، وإن كانت سببًا لذرف دموع بعضهم فإنها بمثابة الشغف الذي ارتبط بسفرهم على الدوام.
لم يكتفِ صوت اليمن الخالد – كما يصفه محبوه – بأن تملك شغفهم وحسب، بل زاد على ذلك بأغانيه الفاتنة، وبصوته الذي منحه الله نبرة خاصة، ميزه بها عن العالمين، وبألحانه المنتمية إلى عمقه اليمني، ومحيطه الخليجي، الذي لم يفارق وجدانه حتى فارق الحياة.
بدا أبوبكر سالم صاحب الصوت الشجي ولِهًا بعدن، فغنّى لها أغنية تلهج بها الألسن كلما تبادرت الأذهان نحوها، كما عهدناه مسافرًا على الدوام، غنّى لها قبل الوصول إليها:
يا طائرة طيري على بندر عدن
زاد الهوى، زاد النوى، زاد الشجن
ولمّا هم بالفراق، خاطبها بكل حزن: كل شي إلا فراقك يا عدن
وحين تغزّل بصنعاء توجه إلى أهلها بخطاب المحب:
أحبة ربى صنعاء…

وغنى لليمن كلها، اعتزازًا بانتمائه إليها، وتعبيرًا عن حبه لها، فناداها:
أمي اليمن…
“أبوبكر سالم على قائمة المطلوبين من كافة المسافرين، بشكل يومي، ولمدة سبع ساعات أقطع المسافة بين تعز وعدن، طول فترة السفر وهم يستمعون لأغانيه دون ملل، كل ألبوماته الغنائية محل ترحيب”، بهذا يعبّر رشاد الشرعبي عن مدى حب الناس وتعلقهم بالفنان أبوبكر سالم، وهو الذي يملك حافلة لنقل الركاب من تعز إلى عدن، يوميًا.
ويظل ابن الغنّاء تريم خالدًا لدى اليمنيين، وصاحب صفحة فنية ناصعة البياض، زاخرة بالتنوع المرحب من الجميع.

عذوبةٌ وشجن


من حضرموت الشجن، إلى تعز العذوبة واللحن، وهناك صوت له صداه في كل أرجاء اليمن، الرجل الذي غنّى للسهل والبحر والجبل، ولا تلام إن همت بألحانه وصوته الغنائي الفريد، وألوانه التي تجد محبين وعاشقين لها سواء في صعدة شمالًا، أو أبين جنوبًا، وحتى المهرة شرقًا، والحديدة غربًا، وهذه إشارة على مدى قابلية الناس لكل ما يصدر منه؛ فقد غنى للثورة والوطن، وللحب، غنى لهؤلاء بكل الطرق التي يجيدها، وأودع فيهم من عذوبة صوته ما لا يمكن وصفه، إنّه أيوب طارش، فنان الأرض والإنسان في اليمن.
“لقد أعاد تشكيلي وجدانيًا، أنا أدين لهذا الرجل بكل جمال وجداني أعيشه، بكل التفاصيل الدقيقة التي أتصورها حين أسمع صوته، حتى أنني اشتريت العود وتعلمت عزف أغلب أغانيه”، هكذا يحكي نشوان العثماني، صحفي وأديب عن تعلقه بالفنان أيوب طارش، يقول ذلك بابتسامة كاملة تزين وجهه، ويضيف: أيوب من عالم آخر، جمع كل الألحان اليمنية وقدمها لنا مرة واحدة، كل ما استمع إليه، كأنها المرة الأولى.
“ولأيوب ميزاته ذات الوقع المختلف عند اليمنيين، فقد أدمنوا صوته صباحًا بأغاني المطر والحقول، ومساءً بترانيم الحب والوله، وعند السفر “ارجع لحولك” و”جوال” “، فهو فنان كل الأوقات في اليمن، كما يرى العثماني.
بالنسبة لمنيرة الطيار: “يكفي أن الأغنية اليمنية عند استماعي لها أتجاوز مسألة المكان والزمان؛ لأعيش جوها ومحتواها”.
هكذا يتشكل الفن اليمني بكافة مدارسه، إذ يقدم صورًا غنائية ثرية بنواحيه الثلاث، من غناء كلاسيكي وشعبي وديني، وتلك ذائقة اليمني، يتناغم معها كيف يشاء، مع أخذ الاعتبار للإنسان والأرض التي ينتمي إليها، وهذا ما يلخصه أبوبكر سالم حين يقول: سر حبي فيك غامض، سر حبّي ما انكشف!

مقالات مشابهة