المشاهد نت

عن الاعتقال ومعاناة الأسرة

صنعاء – عمران مصباح :

في لحظة الحرب، تُلقى على كاهل الفرد، كل أنواع العذاب، ابتداء من الموت الذي يترصده على الدوام، ومرورًا بالاعتقال، الذي لا يقل جريمة عن القتل، لكونه يحرم الشخص من العيش لفترات ليست بالقليلة، وغالبًا ما يكون ضحاياه من الأبرياء، ويتم احتجازهم دون أية تهمة تُذكر.
هذا السلوك غير القانوني، صحيح أنه يتم ضد شخص واحد، إلا أنه لا يقتصر الضرر عليه فقط، بل يشمل كل من يعرفه، ولو بنسب مختلفة، وغالبًا ما تكون العائلة هي الحائزة على النصيب الأعلى من العناء. وبالرغم من أن القوانين، الدولية منها، والمحلية، تُجرم اعتقال شخص بلا سبب، إلا أن الحرب هي اختراق لكل تلك القوانين، وتجاوز لها.

معاناة الأسرة

في ظل اعتقال شخص ما، ليس وحده من يعاني، بل يصل الضرر لكل من يعرفه، ولو بمنحهم شعورًا سيئًا، لكن، هناك أشخاص هم أكثر من يعاني، وهم أسرته، عبدالكريم الإرياني أحد النماذج لتلك الحالات، عندما تم اعتقاله من مقر عمله في صنعاء، واستمر لفترة طويلة، تجاوزت العام ونصف عام، وهو أب لثلاث بنات، وموظف في وزارة المياه، وابتداء من اللحظة التي تم اعتقال والدها، وحتى خروجه، تتحدث أبرار الإرياني عن معاناتها، هي وأسرتها، في فترة بقاء والدها رهن الاعتقال، قائلة إنها في ذلك اليوم، أي يوم أخذ والدها، كانت في بيت خالتها، وعندما سمعت خالها يتحدث مع خالتها في الغرفة المجاورة بأنهم اعتقلوا أباها، لم تستوعب على الإطلاق، قائلة: “لا يمكن وصف فجيعتي في تلك اللحظة، لم أكن مستوعبة على الإطلاق، لكنني توقعت أن يتم اعتقاله ليوم أو يومين، بالكثير، وسيعود”.
وتتحدث أبرار عن التواصل الأول لها مع أمها، قائلة: “حاولت أمي ألا تذكر لي الموضوع، لكن، ما إن عرفت أنني على علم به، انفجرت من البكاء، لكنني وقتها، كنت هادئة، وأشعر أنه سيرجع لنا سريعًا”.
وعند عودتها إلى المنزل، كان الجميع من العائلة قد توافدوا إلى هناك؛ رجالًا ونساء، وتقول أبرار إنه في ذلك التجمع العائلي الذي طرأ إثر الحادثة، كانت أمها تريد منهم الصبر، وتحثهم على التماسك، وتضيف: “كانت تحاول إخفاء تأثرها، لأنها لا تريد منا أي انهيار” لكن، ما جرى لها في ما بعد، أي لزوجته، من الإصابة بالسكري، وارتفاع الضغط، يعكس تمامًا التأثر بما حدث، تقول أبرار، وهي البنت الكبيرة لعبدالكريم الإرياني: “أول ثلاثة أيام بالذات؛ عشناها في المستشفى”.
رغم قلة الحيلة آنذاك، لكن أبرار لم يكن أمامها سوى تصرف وحيد، وقامت به: نشر الخبر على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ونقل الخبر لأصدقاء والدها، كما وللمنظمات الحقوقية، لعلهم يجدون طريقة ما لإنقاذه، وتقول: “قلة الحيلة بقيت ترافقنا طيلة الشهر الأول من اعتقاله”.
بقيت أسرته تبحث عنه، وتتواصل كثيرًا، لكنه استمر لمدة 26 يومًا، من دون أن يعرف الجميع عنه شيئًا، قبل أن يتصل لعائلته، ويقول لهم إنه معتقل في الأمن القومي، ويحدد معهم موعد لقاء معهم في اليوم التالي، تقول أبرار عن أول لقاء: “تفاجأنا بشكل أبي، وهو في اللحية، لأنه، وفي كل مراحل حياته، لم يسبق له أن ترك لحيته تكبر، وهو يكرهها للغاية، لذا؛ في ذلك الوقت أدركنا بشكل غير مباشر كمية الضغط النفسي الذي يعيشه”.
وتتحدث أبرار، أنهم، وقبل أن يلتقوا بوالدهم، اتفقوا جميعًا على عدم البكاء في وجهه، لكن ما حدث كان العكس، تقول: “وجدنا أبي يبكي أمامنا، فبكينا جميعًا”.
وتضيف أنه، ورغم المعاناة التي عاشوها بعيدًا عن والدهم، كانت هذه المعاناة تتضاعف بعد كل لقاء، حين يعودون إلى المنزل من دونه، وتستدرك: “لكن، من أكثر المشاهد صعوبة، عندما زرناه في العيد برفقة عمومتي، وأقاربنا، ووجدنا كل رجال الأسرة يبكون أمامنا، وبكل قلة حيلة، ولا نستطيع فعل شيء لإخراجه”.
أما فترة كورونا، فكانت الأكثر صعوبة لهم، وذلك حسب الإرياني، عندما منعوا حتى الزيارات، وكان ذلك قبل أربعة أشهر من إطلاق سراح والدها، وتقول: “بقي مدة ثلاثة أشهر من دون أن نلتقي فيه، وكان ذلك صعبًا للغاية”.
وبعد الكثير من المتابعة التي لم تتوقف، ولو لوهلة، استمرت العائلة، ومعها جميع المقربين، وبعض الحقوقيين، والمنظمات، في استخدام كل السبل لإخراجه من المعتقل، بعد أكثر من 500 يوم من التعب الذي رافق بناته، وزوجته، فجأة، وفي أحد أيام رمضان، تلقت زوجة عبدالكريم الإرياني، اتصالًا هاتفيًا يطالبها بإحضار الضمانة لإخراج زوجها، بسرعة شديدة، وفرت لهم ما يطلبون، وعادت إلى المنزل، تقول أبرار: “لم نكن متوقعين أنه سيخرج في ذلك اليوم أبدًا أبدًا أبدًا”، هذا الشعور بأنه لن يخرج بتلك السهولة، هو المشهد الأكثر تلخيصًا لما وصلته الأسرة بعد عام ونصف. لكن، وفي اليوم نفسه، اتصل شخص بهم، ويقول لهم إنه مع عبدالكريم، وهو الآن خارج السجن، وفي طريقه إلى البيت، تقول أبرار: “لم نصدق بالبداية، لكن، ما إن سمعنا صوت أبي، يقول إنه فعلًا قد خرج، احتفلنا كما لم نحتفل من قبل، بقينا منتظرين وصوله: نحن، والحارة، وكل الأقارب، وعندما استقبله الجميع في الحارة، ووصل إلى البيت، كنا ننظر إليه، ونحن غير مصدقين عودته من شدة الفرحة”.

إقرأ أيضاً  مشكلة الأرقام المؤقتة للوحات المركبات بتعز

معاناة المعتقل ذاته

في منتصف أغسطس، من العام 2020، غادر الصحفي يونس عبدالسلام، مأرب باتجاه عدن، وقبل أن يصل المدينة بقليل، استوقفتهم نقطة أمنية، ليتم إنزاله وحده من على السيارة التي تنقلهم، دون أن توجه له أية تهمة، أو سبب، ولم يكن الأمر سوى الترصد المسبق له، حسب استشعار يونس نفسه، وما إن بدأ الاستفسار عن سبب احتجازه، حتى تلقى الصفعات، ويقول: “ذلك الرد كان بمثابة توجيه إجباري نحو الصمت”. تم بعدها تم نقله عبر طقم عسكري إلى مكان مجهول، يقول يونس عن تلك اللحظة التي تم اقتياده فيها: “شعرت بأنني ذاهب إلى الجحيم. ورغم أنني قضيت أيامًا قليلة فقط، لكنها كانت أسوأ أيام حياتي على الإطلاق”.
الجدير بالذكر أنه، وعندما تم اعتقاله، كان يركب سيارة أجرة، وحيدًا، ولم يكن يرافقه في الرحلة تلك، أي صديق حتى يبلغ الآخرين من أصدقائه، أو أقربائه، بما جرى، وعند وصوله إلى السجن، بقي يتأمل الجدران المحيطة به، ويسأل نفسه، عن طريقة ما للخروج من هذا المكان البعيد، فيجد الإجابة سريعة: بأن ذلك أمر مستحيل، لأن قدرًا ما، قد وضعه هنا، وسيبقى للأبد، حسب وصفه، ويضيف: “وقتها؛ بقيت أتمنى أن يكون شخص واحد على هذا الكوكب، يعرف أنني معتقل، حتى أشعر بالأمل”. ويقول إنه كان يفشل في أن يطمئن نفسه بأن الآخرين سيعرفون ما حدث، وقد يجدون طريقة ما لمساعدته في الخروج من هنا.
هذه الحياة، ومادمت على قيدها، ستجد الكثير من المتاعب، وستعترض طريقك صعوبات عديدة، لا شك في ذلك، لكن تجربة السجن هي أسوأ ما قد يحدث لأي فرد، هناك، وبالإضافة إلى سلب حريتك، ستنمو عندك الهواجس النفسية، ولن يجد جسدك ما يريده من الطعام، والماء، سيتم حرمانك من كل احتياج، يقول يونس: “لقد عشت في مكان مخيف، وإن طالت الفترة، كنت سأجن، بقيت يومًا كاملًا بلا أكل، ولا ماء، قبل أن أحصل على الفتات، لكنني أصبت بعقدة الماء، وحتى اللحظة، أريد ماء في جواري أكثر من احتياجي، لا أريد البقاء من دون ماء”.
كما عاش يونس فترات نفسية صعبة للغاية، فور خروجه خضع لعلاج مستمر، ووقف إلى جواره الكثير من أصدقائه، لكي يستطيع استعادة نفسه، وذلك بحسب قوله.

قلة الحيلة تجاه الضحية

تعيش أسرة المعتقل، بالإضافة إلى المنظمات الحقوقية، قلة حيلة تجاه الضحية، والذين غالبًا ما يعيشون وضعًا صعبًا في أماكن احتجازهم. عبدالرشيد الفقيه، وهو المدير التنفيذي لمنظمة مواطنة، وهي منظمة حقوقية، يتحدث عن وضع المعتقلين في اليمن بشكل عام، قائلًا: “من المؤسف القول بأن الاحتجاز التعسفي أحد الانتهاكات البارزة في الحرب، وتمارسه جميع الأطراف، دون اعتبار للقانون ولقيم حقوق الإنسان، ويعيش المحتجزون أوضاعًا بالغة السوء تنتهك حقوقًا أساسية، إذ يقبعون في أماكن غير مؤهلة، ويتعرضون لمعاملة لاإنسانية، ويحرمون من الرعاية الصحية اللازمة”.
وعن مدى الصعوبة التي تواجهها المنظمات الحقوقية تجاه الضحية، والتي قد تصل إلى الشعور بالعجز لإنقاذ المعتقل، يتحدث الفقيه على أنهم مستمرون في العمل على مساعدة الضحايا، قائلًا: “يقدم محامونا في جميع المناطق دعمًا قانونيًا متواصلًا للمحتجزين، نهدف من خلاله للإفراج عنهم، ونحاول من خلال جهودنا إنعاش منظومة إنفاذ القانون، وأكبر صعوبة هي استمرار الحرب التي توفر بيئة للخروقات والانتهاكات بكل التعقيدات المصاحبة لها”.
أيضًا؛ عن قلة الحيلة التي تواجهها الأسر اليمنية لمعرفة أي شيء عن المعتقل، والعجز حتى في الدفاع عنه، يضيف الفقيه بهذا الخصوص، قائلًا: “نواجه مع الأسر وضعًا غير طبيعي مليئًا بالتشوهات، ومع ذلك حققنا مع الأسر والكثير من الشركاء اختراقات مهمة، وإن كانت غير كافية وغير مُرضية بالنسبة لنا، ولهذا لا بد من توسيع دائرة العمل ضد الاحتجاز، ولا بد من توسيع دائرة التضامن ودائرة الوعي”.
وفي ظل ضيق الحلول عند أسر المعتقلين، يتحدث الفقيه، وبحكم خبرته الحقوقية، عن التصرف الصحيح، الذي يجب أن تقوم به أسرة المعتقل عند حدوث اعتقال ما لشخص منهم، قائلًا: “لا بد من الوعي بآليات الإبلاغ، وعدم التخلي عن أي محتجز تحت إرهاب الأطراف المنتهكة، وتوسيع دائرة الشركاء والمتضامنين”.
في النهاية، الجدير بالذكر، أن جريمة الاعتقال، ليست حكرًا على طرف معين، وإن كان هناك طرف من ناحية الانتهاك، أكثر من غيره، إلا أن هذا السلوك غير القانوني يمتد على طول الرقعة الجغرافية اليمنية، وقبل انتهاء الحرب، لن يتوقف هذا السلوك، الذي تمارسه كل الأطراف المتنازعة ضد المواطنين بشكل عام.

  • تم نشر هذا التقرير بدعم من JHR/JDH – صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا
مقالات مشابهة