المشاهد نت

اليمن .. حرب طاحنة وخدمات صحية معدومة

اليمن .. حرب طاحنة وخدمات صحية معدومة

 

لم تعد كليتا عبد الله راشد قادرتين على العمل، ففي مثل عمره (31 سنة) يحتاج إلى الغسيل الكلوي مرتين في الأسبوع وإلى خليط من العقاقير ليبقى على قيد الحياة.

يعيش عبد الله في صعدة شمالي اليمن، وهي مدينة شهدت تدميرا بالغا في الحرب الأهلية في البلاد. تسبب المرض في إنهاء عمله في الشرطة، وهو الآن يعتمد لإعالة زوجته وطفليه على إعانة يحصل عليها، خاصة بالإعاقة المرضية التي يعاني منها.

في معظم الأسابيع يقدر بالكاد على تحمل نفقات الدواء والطعام لعائلته، وفي أسابيع اخرى، عليه أن يختار بين الاثنين، عندما يضطر للتوقف عن الدواء، يعلم أنه سيصاب بنوبات من القيء وألم الصدر وأنه سيعاني من تعقيدات صحية كثيرة.

يوما الأربعاء والأحد يذهب عبد الله لتلقي العلاج في المركز الطبي الجمهوري، وهو مستشفى محلي يعاني من نقص العاملين والفرق الطبية ومن ضغط العمل الشديد، وهو مستشفى يشهد ضغطا كبيرا من المحتاجين إلى غسيل كلوي حتى أن وحدة الغسيل الكلوي لا تتوقف في عن العمل على الإطلاق. المرضى يأتون ويذهبون طوال الليل وفي الساعات الأولى من النهار.

وتبدأ جلسة الغسيل الكلوي لعبد الله ليلا، بعد ساعتين من حلول الظلام. مع تحليق الطائرات التي تبحث عن أهداف متحركة، يصبح من الصعب عليه الذهاب بالسيارة ويضطر إلى الذهاب سيرا.

وقال عبد الله بالهاتف في جلسة حديثة للغسيل الكلوي “لا أستطيع أن أرى أي شيء في الظلام. أخاف من كل شيء. أخاف من أن تضربني الطائرات. أخشى أن أضطر للركض. أخشى حتى من الكلاب الضالة”.

تستغرق مسافة المسير نحو ساعة، ولكن عبد الله ضعيف. وقال “أسير بضع خطوات ثم أضطر للراحة. أسير قليلا وأرتاح قليلا وأستمر هكذا حتى أصل”.

وقال الطبيب محمد حجر رئيس العمليات في المستشفى الجمهوري إن بعض المرضى “بالكاد على قيد الحياة”. وبعضهم لا يصل على الإطلاق. يضيع منهم موعد أو موعدان، ومع التغيب يفترض طاقم المستشفى أن مكروها حل بهم.

وقال حجر “كل ما نعلمه هو أن مريضا ما كان يأتينا بانتظام ثم أصبح لا يأتي إلى المستشفى. إما أن يكون قد انتقل إلى مكان آخر أو توفي”.

عندما تنتهي جلسة عبد الله قرب منتصف الليل يأمل أن يوصله أحد المرضى لمنزله، وإذا لم يجد من يوصله، يضطر للسير.

هذا هو الواقع الجديد للنظام الصحي في اليمن أو ما تبقى منه. بعد عامين من الحرب، يموت الآلاف من حالات صحية يسهل علاجها مع تداعي النطام الصحي في البلاد.

العقاقير تختفي من السوق أو تشهد أسعارها قفزات كبيرة. الرعاية الطبية النفسية والعقلية تكاد تكون معدومة تماما. المعدات الطبية الحيوية عالقة في الموانئ بينما تدمير القوافل الطبية ومركبات الإسعاف ومستشفيات بأكملها في القصف الجوي.

ويضرب التحالف العسكري التي تقوده السعودية، اليمن بلا هوادة في استهدافه للحركة الحوثية، وذلك بسلاح مصدره الولايات المتحدة، التي أدى قصفها هي أيضا إلى مقتل مدنيين.

 محافظة صعدة، التي يوجد بها المستشفى الجمهوري، ومحافظة حجة المجاورة من أشد مناطق اليمن تضررا.

في أغسطس/آب الماضي قتل 19 شخصا عندما دمر مستشفى تابع لأطباء بلا حدود في هجوم جوي، يعد من بين الأحدث في قائمة طويلة من الهجمات على منشآت تابعة لأطباء بلا حدود.

وسحبت المؤسسة الخيرية الطبية كل طاقمها الأجنبي من المحافظتين وأعطت تعليمات لموظفيها المحليين بعدم العمل. في خلال 24 ساعة فقد المستشفى الجمهوي 189 من طاقمه، نصف العدد الإجمالي تقريبا.

وقال حسن بوسنين رئيس بعثة أطباء بلا حدود في اليمن كان ذلك “قرارا مؤلما للغاية. ولكن ما كان في وسعنا أن نترك موظفينا يقتلون الواحد تلو الآخر. كان يتوجب علينا أن نفعل شيئا”.

وبالنسبة لأهل اليمن كان ذلك بمثابة ضربة جديدة لنظام طبي متداع بالفعل. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن نحو 600 مؤسسة طبية -أي أكثر من خمس المؤسسات الطبية في البلاد- توقفت عن العمل بسبب القتال، مما أدى إلى حرمان 14 مليون شخص من الرعاية الطبية الكافية.

وأضاف بوسنين: “أغلب الناس هنا يموتون في صمت.لايمكنهم الحصول على الرعاية الطبية الأساسية. وهذا ليس في صعدة وحجة فقط، بل الحال متشابه في عدن وغيرها”.

في المستشفى الجمهوري يواصل العاملون عملهم بالعناية بنحو 600 مريض في اليوم، مع نقص متزايد في العقاقير والمستلزمات الطبية،ولا يوجد في المستشفى طبيب للصحة النفسية ولا يوجد بها عقاقير للصحة النفسية.

قسم  الاطفال الخدج في مستشفى الجمهوري بتعز هو الاخر  تعرض للقصف من قبل الحوثيين وقوات صالح

 

 وحدات الغسيل الكلوي التي تساعد عبد الله و103 غيره من مرضى الكلى للبقاء على قيد الحياة انتهت صلاحيتها رسميا، ومحاليل الغسيل الكلوي توشك على النفاد. طلب الدكتور حجر 14 وحدة جديدة، ولكنها عالقة في ألمانيا، يمنعها الحصار السعودي من دخول اليمن.

في قسم الولادة، ذهب آخر أطباء النساء والولادة، تاركا طاقما مخلصا ولكن غير مؤهل من القابلات للعناية بالنساء وتوليدهن. النساء الحوامل اللاتي يتمكن من الوصول إلى المستشفى بأمان محظوطات، حسبما قالت منى، وهي قابلة في المستشفى تعيش قرب صعدة. وقالت “أحيانا تقصف الطائرات أي شيء يتحرك”.

وتحدثت منى عن أمرأة توفيت هي وجنينها في يوم قائظ الحرارة في يونيو/ حزيران لأنها كانت في حاجة عاجلة لجراحة قيصرية. وتحدثت عن امرأة نزفت حتى الموت في سيارة وهي تحاول أن تضع جنينها. وحكت عن تلك التي وصلت المستشفى بحروق في ثلثي جسدها وتوفيت هي وجنينها بعد ثمانية أيام من قصف منزلها في هجوم جوي.

إقرأ أيضاً  اتساع ظاهرة التسول في رمضان

وقال بوسنين “هذا ليس مأساة نادرة الحدوث. هذا ما يحدث كل يوم. امرأة حبلى في حاجة إلى قيصرية ولكنها لن تغادر منزلها إلا عندما يكون ذلك هو الملاذ الأخير بسبب الهجمات الجوية. ستحاول الوصول إلى مستشفيين ولكن ستجدهما مغلقين أو بلا جراح لإجراء الولادة القيصرية. قد تصل إلى المستشفى الثالث، ولكنها أو الجنين أو كليهما سيتوفيان”.

ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) يعيش نحو 600 ألف امرأة حبلى في مناطق توجد فيها رعاية صحية محدودة أو منعدمة. ولا تستطيع الكثير من النساء الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية، حتى أن أطباء بلا حدود اصبحت لا تسجل وفيات حديثي الولادة.

كما لا توجد سجلات لحالات الإجهاض. قالت هنا المصلح رئيسة قسم التوليد في المستشفى الجمهوري إن معدل حالات الإجهاض كان حالتين في الأسبوع قبل الحرب، والآن أصبح حالتين أو ثلاث في اليوم.

ويزيد سوء التغذية وقلة العناية الطبية في مناطق الحروب من حالات الإجهاض. وأضافت هناء إن الخوف الدائم عامل مهم أيضا. وتقول إنه في أغسطس/آب الماضي هي ذاتها أجهضت عندما دمرت غارة جوية المبنى المقابل لمنزلها وأدى ذلك إلى أن تهرع إلى الطابق السفلي في المنزل.

أما بالنسبة للرضع الذين يصلون إلى الدنيا سالمين وبالنسبة لأطفال اليمن، فالمستقبل غير واضح وقاتم. وتقدر يونيسف عدد أطفال اليمن الذين سيتوفون هذا العام فقط بسبب نقص الأدوية بنحو عشرة آلاف طفل، وذلك إضافة إلى الذين يقتلون في القتال.

وأرقام منظمة أطباء بلا حدود صادمة: سبعة ملايين طفل لا يحصلون على رعاية طبية كافية، 2.6 مليون طفل عرضة للإصابة بالحصبة، 1.8 عرضة للإسهال، 1.5 مليون طفل مصابين بسوء التغذية، 370 ألفا على الأقل مصابين بسوء التغذية الحاد، أو يتضورون جوعا.

ويمكن لعدد ضئيل للغاية من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد الحصول على العلاج، وبعضهم في وحدة التغذية العلاجية في مستشفى الجمهورية. ولدت دعاء، وهي رضيعة من صعدة، بوزن أقل من الطبيعي، ولا يستطيع والدها وزان علي أحمد، وهو مزارع، أن يوفر لها الطعام هي وشقيقتيها.

وقال وزان “قبل الحرب كان بإمكاني شراء الخضر. كنت أستطيع شراء ما أحتاجه. ولكن الحرب اندلعت، ولم أعد قادرا على شيء”.

وزارت الطبيبة مريتيكسل ريلانو، نائب ممثل يونيسف في اليمن، وحدة التغذية العلاجية في أغسطس/آب الماضي. وقالت “كنت أحمل رضيعة عمرها ستة أشهر ولم أستطع تخيل الأمر. كان وزنها أقل من ثلاثة كيلوغرامات. في عمر ستة أشهر يجب أن يتراوح وزن الرضيع بين ثمانية وعشرة كيلوغرامات”.

في عمر ستة أشهر، كان وزن دعاء يقل عن أربعة كيلوغرامات ولم تكن تستطيع الحركة بصورة طبيعية. والآن قبل عيد ميلادها الأول بنحو عشرين يوما، وبعد خمس زيارات للمستشفى أصبح وزنها نحو ستة كيلوغرامات.

وقال وزان “ستكون بخير الحمد لله. زاد وزنها وستكون بخير. كل ما نستطيع أن نشتريه لها من طعام، نحاول أن نشتريه”.

ولكن ريلانو قالت إن الطريق طويل حتى بالنسبة للذين يجدون العلاج. وقالت ” حتى إذا تماثل الطفل للشفاء وعاد الأبوين للمنزل، لا يوجد عمل ولا دخل ولا يوجد سبيل للحصول على طعام للأطفال”.

 

وفي الكثير من النواحي، ما زالت الأزمة الصحية في اليمن في بدايتها. وزارة الصحة قاربت المرحلة التي لا تستطيع فيها دفع رواتب أو شراء إمدادات، حسبما تحذر هيئات الإغاثة، كما أن الأطقم الطبية وطلبة الطب يعملون لساعات طويلة بشكل خطير لسد الاحتياج.

وبدأت أمراض كانت اختفت منذ أمد طويل قبل الحرب، مثل الكوليرا والملاريا، في الظهور مجددا، خاصة وسط ثلاثة ملايين شخص شردوا من ديارهم ويعيشون في مخيمات عشوائية. وسيحتاج الآلاف إلى أطراف صناعية وإلى إعادة تأهيل. ويستمر ارتفاع معدلات سوء التغذية.

الرعاية النفسية والعقلية لا تحظى إلا بقدر ضئيل للغاية من الاهتمام، تاركة الجراح غير الظاهرة للحرب دون علاج وأعدادا ضخمة من المصابين بالصدمات النفسية دون علاج. يرى الأطفال الصغار أسرهم وذويهم قتلى أمام أعينهم، ويرى الآباء والأمهات أبناءهم قتلى.

وقال بوسنين “أفضل ما يمكننا عمله الآن هو أن نساعدهم على الهدوء. بالنسبة لهؤلاء الذين يحتجاون رعاية نفسية مركزة أو الذين يحتجون لجراحات تجميل وترميم ضخمة، الموقف متأخر عن اللازم بالفعل”.

وأضاف “العالم يجب أن يقوم بشيء الآن لأنه في القريب العاجل سيكون أوان الإصلاح قد مضى. بالنسبة للبعض فاتت الفرصة بالفعل. وحتى إذا استقر الوضع الآن، هناك عبء طويل سنحمله على مدى أعوام”.

ثمة ومضات أمل وسط الأزمة. في قسم التغذية العلاجية في مستشفى الجمهورية يستعد وزان لعودة دعاء إلى المنزل بعد آخر زيارة مقررة لها للمستشفى. لم تعرف ابنته الصغرى السلام قط منذ مولدها. وقال وزان “أملي أن تنتهي الحرب. هذا كل ما نريده”.

ستعود دعاء إلى القرية مع والديها وأختيها وسيكون غذاؤها الرئيسي البطاطا المسلوقة والرز. ويأمل وزان في أن تعود ببطء إلى الوزن الطبيعي. وقال وزان “إن شاء الله سنطعمها من المحصول”.

المصدر – بي بي سي عربي

مقالات مشابهة