المشاهد نت

بقطع من الكرتون يتجاوز ظروف الحرب


إشراق عمر- الحديدة :

داخل كوخ صغير في أعماق الريف التهامي، ينهمك (محمد الجيشي، 50 عاما) في إعادة تشكيل قطع من الكرتون ليصنع منها مجسمات هندسية ودمى متنوعة. هي هواية قديمة كان يمارسها في طفولته على سبيل اللعب، لكنها الآن صارت حرفة ومصدرا أساسيا للرزق في ظل حرب طاحنة شملت كل شيء بما في ذلك لقمة عيش الفقراء.

هو مزارع سابق من أهالي قرية (دير الهجاري- باجل)، تسببت الظروف الاقتصادية التي خلقتها الحرب بإتلاف مزرعته الصغيرة. أزمات الوقود المتتالية وتضاعف سعر الديزل، وارتفاع قيمة نظام الري بالطاقة الشمسية لمستوى يفوق إمكانيات (الجيشي) كانت عوامل كافية لتجعله عاجزا عن سقاية مزروعاته التي التهمها الجفاف تدريجيا حتى تلاشت قبل ثلاث سنوات.

بقطع من الكرتون يتجاوز ظروف الحرب


الأمطار الموسمية الشحيحة والنادرة في تهامة لا تكفي للاعتماد عليها في زراعة ما يكفي لإطعام عائلة تتضمن زوجة وأربعة أبناء إضافة إلى أقارب مُسنين. لذا فقد كان على (الجيشي) إيجاد مصدر رزق دائم لإطعام أسرته. لكن وبرغم عزيمته واجتهاده، لم تثمر محاولاته لتجاوز الظروف المعيشية الصعبة التي طالت كل شرائح المجتمع، في ظل حالة التدهور الاقتصادي وما نتج عنها من تضاؤل فرص العمل وإمكانيات توليد الدخل.

واجه (الجيشي) ظروفا معيشية صعبة وزادت معاناته مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية، بحث عن عمل كمزارع أجير لدى الغير دون جدوى، كما حاول العمل في تجارة المواشي ولكنه لم يستمر كونه لا يملك رأس مال يعينه على ذلك.


مع ثقل الإحساس بالبطالة وسأم الفراغ اتجه (الجيشي) لاستعادة هوايته التي كان يمارسها في صباه، بدأ ذلك بدافع كسر الملل واستغلال الوقت في الاستمتاع بممارسة موهبته القديمة في صناعة المجسمات والألعاب من ألواح الكرتون والورق. ثم خطرت له فكرة أن بإمكانه بيع منتجاته للناس باعتبارها نوعا من الديكور لتزيين البيوت.
(محمد مهدي) أحد جيران (الجيشي) قال: “كنت أشاهده يجمع القراطيس والكراتين فأستغرب. وذات يوم شاهدته حاملا مجسما جميلا أعجبني وطلبت منه أنه يريني المزيد من تلك النماذج. حينها قررت تزيين منزلي بمنتجات (لجيشي)، فاشتريت نموذجين منها”.
وعن رأيه بخصوص أهمية تلك المنتجات، يقول (محمد مهدي): “سكان الريف البسطاء، يرون مجسمات الجيشي كنوع من الزينة الفخمة والبسيطة الثمن أيضا، فهي تلبي احتياجاتهم لتزيين بيوتهن خصوصا أولئك المقبلين على الزواج أو الذين يريدون تقديم هدية لمعارفهم في المناسبات.”

إقرأ أيضاً  المرأة الريفية.. حضور متزايد في الزراعة 
بقطع من الكرتون يتجاوز ظروف الحرب

بمرور الأيام زادت حماسة محمد لتجميع صناديق الكرتون المستعملة في تغليف البضائع، والمواد البلاستيكية المهملة. ليستخدمها في بناء مجسمات ديكور واشكال معمارية بأحجام أكبر من تلك التي كان يصنعها في طفولته. وذلك بغرض التسويق لنفسه والتعريف بموهبته، وبالفعل استطاع جذب اهتمام المحيطين به نحو منتجاته، فأقبلوا على شرائها ليزينوا بها مجالس بيوتهم، وهو ما ساهم في الترويج لتلك المنتجات.

ضمن المنتجات التي يصنعها (الجيشي) تماثيل أو دمى على شكل أطفال أو حيوانات، وهي منتجات وجدت لها زبائن من نوع مختلف. مثل المعاهد التعليمية ومراكز تدريب في مدينة باجل، إذ طلبوا منه أن يصنع لهم مجسمات محددة لاستخدامها كوسائل تعليمية.
الأكثر من هذا، يقول الجيشي: “طلبت مني مراكز طبية أن أصنع لهم مجسمات طبية كبديل عن المجسمات المستوردة باهضة الثمن. وبفضل الله كسبت شهرة واستطعت الحصول على مصدر دخل، ولا زلت أتلقى طلبات كثيرة”.

عن الصعوبات التي يواجهها، يقول (محمد الجيشي) : “المواد التي استخدمها هي في نظر الناس مواد ملوثة للبيئة، إلا أنني بفضل الله وبحسب إمكانياتي استطعت تحويل ما يعتبرونه ملوثا للبيئة إلى زينة يزين بها الناس منازلهم ومكاتبهم”.
يتذكر (محمد الجيشي) بدايات اهتمامه بجمع الكراتين والقراطيس منذ طفولته، فيقول: “في الثالثة عشر من عمري كنت أجمع (قراطيس الجعالة) والكراتين وأصنع منها قوارب وطائرات يلعب بها الأطفال، ومن حينها وأنا شغوف بصنع مجسمات وأشكال أشاهدها في التلفاز وفي المجلات لأجعلها شيئا ملموسا”.

قد يكون (محمد الجيشي) أحد ضحايا التداعيات الاقتصادية للحرب التي سلبت مزارعين كثيرين لقمة عيشهم وأتلفت مزارعهم جزئيا أو كليا. إلا أن (الجيشي) لم يستسلم وشق لنفسه مسارا بديلا لمواصلة الحياة بتطوير موهبته وتسويق منتجاته، بل وصار لديه طموحات مستقبلية لتطوير نشاطه الإبداعي، إذ يتمنى إنشاء معمل كبير لإعادة تدوير ملوثات البيئة والاستفادة منها في صنع مجسمات الزينة.

تم إنتاج هذه المادة من قبل شبكة صحفيي السلام اليمنيين ومبادرة يمن بيس في إطار نشاط بناة السلام لـ “منصتي 30”.

مقالات مشابهة