المشاهد نت

في المخا.. الزمن لا يتحرك

تعز – سامي عبدالعالم:

كما لو أن الزمن لم يتقدم خطوة إلى الأمام.. خطوة مقدارها 50 سنة. هكذا تكشف بعض رسائل رائد الحركة الوطنية والتنوير أحمد محمد نعمان، عن انحراف في جوهر النظام القائم منذ ستينيات القرن العشرين الماضي. انحراف مايزال اليمن يعاني تبعاته حتى اليوم.
في كتابه “أنات ونبوءات في رسائل الأستاذ النعمان”، الصادر حديثًا في مصر عن مؤسسة أروقة ومنتدى النعمان الثقافي للشباب، يقول المؤلف عبدالباري طاهر: “لم يتعرض أحد من الرموز الوطنية للظلم كما تعرض الأستاذ أحمد محمد نعمان، فالنعمان الصانع الأول لحركة الأحرار اليمنيين، وفق تسمية الزبيري، منذ وضع لبناتها الأولى، حامل مشعل التنوير والتعليم والاستنارة، والمدافع عن الدستور والقانون والنظام”.

داعية سلام حاربه الجميع

يرى طاهر أن النعمان ظُلم من مختلف الاتجاهات السياسية، وشُنت ضده حملات تشويه، فقد “حاربه اليمين لأنه دستوري ومارق، وحاربه اليسار لأنه ليبرالي راسمالي وعميل للرجعية والاستعمار، وحاربه الضباط الأحرار لأنه لا يؤمن بالقوة وخصم للشرعية الثورية وله موقف ضد الحرب كداعية سلام.. وظلمه رفاقه الأحرار بعد رحيل رفيق دربه الزبيري”.
ويقول المؤلف إن الظلم حاصر النعمان بعد أن تخلى عنه رفاقه الأحرار الذين توزعوا على الخريطة السياسية الجديدة، ولم يكن له في القبيلة سند، ولا في التيار القومي قبول، ورأى فيه اليسار صورة الليبرالي الذي يسعى لرسملة البلاد والابتعاد بها عن قطار الاشتراكيين الزاحف، أما أنصار النظام القديم (الإمامي) فقد ثاروا عليه لأنه “الشيطان الرجيم” الذي سول لآدم الخروج من جنة الإمامة وأكل “تفاحة” المعرفة والتمرد و”الدسترة”.
وقف الجميع مع الحرب، فيما وقف النعمان بحسب الكتاب “كالأب ياناروس في رواية الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس “الإخوة الأعداء”، يدعو أبناءه في اليمين واليسار للتوحد وطرح السلاح.
يقول الكاتب: “رفع النعمان لواء السلام في بلد يصطلي بالحرب، ورفع شعار المصالحة مع الجيران، والجيران حينها يضرمون النار في وطن يغادر الأجداث ويشرئب للحرية والحياة، فوسع من دائرة الخصوم في صنعاء، ولم يكسب ثقة أنصار الإمامة سواء الذين اختاروا حمل السلاح أو الذين شكلوا طابورًا خامسًا لاحتواء الثورة واغتيالها”.

نبوءة النعمان

يتناول الكتاب بعض رسائل النعمان، ومنها رسالته المريرة إلى رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني، في نوفمبر 1970، والتي اعتبرها المؤلف بمثابة نبوءة للنعمان.
أتت الرسالة بعد زيارة قام بها النعمان، وكان عضوًا في المجلس الجمهوري، إلى المخا غرب تعز.
عن تلك الرسالة يقول طاهر إن النعمان “ضمنها رؤيته المستقبلية لمآل النظام، بعد أن قرأ تفاصيل المأساة اليمنية مكثفة في عيون ووجوه أبناء المخا، وخراب دورها، فربط بين خراب المدينة وخراب الذمم، كمؤشرين على خراب التوجه العام، ونوع الشعارات والأهداف”.

حزب الطليعة العربية الإسلامية (الإصلاح حاليًا)

مثل عام 1970، عام تأسيس أو إعادة تأسيس معظم الأحزاب الحديثة، وفقًا للكتاب تأسس في هذه الفترة حزب الطليعة العربية الإسلامية، وهو نواة التيار الإسلامي الذي أعلن مطلع التسعينيات، باسم التجمع اليمني للإصلاح، بعد أن تحالف مع التيار القبلي بزعامة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.
كما أعلن حينها، بحسب المؤلف عبدالباري طاهر، عن بدايات التأسيس لحلقات الناصريين، كما أعيد تأسيس وبناء الحزب الديمقراطي الثوري، وحزب الطليعة الشعبية، واتحاد الشعب، وحزب العمل. وهي الفترة التي بدأ فيها نجم المقدم إبراهيم الحمدي في الصعود.
تتناول رسالة النعمان موضوع المخا، وعجز المجلس الجمهوري عن معالجة أوضاعها البائسة.
يقول المؤلف: “النعمان في رسالته يرسم صورة مأساوية لوضع الخراب الشامل الذي تعيشه المدينة، فلا مياه شرب نقية ولا مستوصف ولا نظافة ولا خدمات”.
لم يعد هناك ما يستدل به على ارتباط المخا باليمن إلا الميناء الآيل للخراب.. ينتقد النعمان “ضعف الولاء للدولة، وانتشار التسيب والفوضى التي عششت في جهاز الدولة، وهيأت المناخ العام لحركة 13 يونيو 1974”.
يقول طاهر إن رسالة النعمان عام 1970، كانت النبوءة المستقبلية التي قرأها في خرائب المخا، ووعاها من وجوه وعيون أبناء المدينة التي تشي بالفاقة وتبوح بالجوع والجهل والمرض؛ الثالوث الشرير الذي قامت الثورة ضد الإمامة للقضاء عليه.
كانت الرسالة، بحسب المؤلف، استشرافًا عبقريًا لاتجاهات الرياح السياسية في يمن السبعين. كانت الرسالة دعوة من النعمان إلى رئيس وأعضاء المجلس الجمهوري بالاستقالة، وإفساح المجال للجيل الجديد.
بعد 4 أعوام على رسالة النعمان، تمت إقالة عبدالرحمن الإرياني من رئاسة المجلس الجمهوري، وغادر اليمن إلى سوريا من قبل حركة 13 يونيو 1974 التصحيحية بقيادة الحمدي.

زيارة قصيرة للمخا تغير توجه النعمان

في رسالته لرئيس المجلس الجمهوري القاضي الإرياني، يقول النعمان إنه قام بزيارة قصيرة إلى المخا في 19 رمضان، الموافق 17 نوفمبر 1970، وأصابته الصدمة لهول منظر الخراب والدمار، وجعلته يشك في وجود دولة تؤمن بأن هذه المدينة جزء من اليمن، أو أن للدولة علاقة بها أو شعورًا بأية مسؤولية نحوها أو اهتمامًا بشأنها.

إيراد الدولة من ميناء وجمرك المخا يبلغ مليوني ريال شهريًا، تذهب كلها إلى خزانة الدولة، دون أن تستفيد المخا من هذا الإيراد، ما يعالج مريضًا أو يعلم جاهلًا أو يطعم جائعًا أو يبني خرابًا


يقول النعمان في رسالته: “إن الخراب الذي تحياه المخا في كل مرافقها الحيوية، ومظاهر البؤس والفاقة والمرض على وجوه سكانها، لا يمكن أن تتجاهله وتغض الطرف عنه أية دولة مهما كانت عدوة للوطن أو غريبة عنه أو مضمرة له الشر والأذى”.
ورغم الخراب والدمار يقول النعمان إن إيراد الدولة من ميناء وجمرك المخا يبلغ مليوني ريال شهريًا، تذهب كلها إلى خزانة الدولة، دون أن تستفيد المخا من هذا الإيراد، ما يعالج مريضًا أو يعلم جاهلًا أو يطعم جائعًا أو يبني خرابًا.
ويضيف: “يجب ألا ننتظر من يتولى إقالتنا من السلطة وإخراجنا من الحكم كما يريد، ليكن شعارنا: بيدي لا بيد عمرو”. دعا النعمان رئيس وأعضاء المجلس الجمهوري إلى تقديم استقالاتهم، قائلًا: “إن من واجبنا إشعار المواطنين بحقيقة عجزنا عن إصلاح ما أفسده الدهر وخلفته الحرب والعهود الفاسدة وعدم قدرتنا على الاستمرار في السلطة”.
وأضاف: “علينا أن نعلن للمواطنين ونوجههم لاختيار قادة غيرنا ممن يرضون ويثقون بهم ويختارونهم بكامل حريتهم وملء إرادتهم وحسب مشيئتهم”.

إقرأ أيضاً  عادات وتقاليد العيد في المحويت

هل تغير وضع المخا؟

مايزال وضع المخا خارج حسابات الدولة، بعد نصف قرن على رسالة النعمان لمجلس قيادة الجمهورية.
تعمدت الحكومات التالية إهمال المخا التي كانت في العصور الغابرة مركز الحركة والنشاط التجاري لليمن والشرق الأدنى. وفي عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تم إيقاف نشاط ميناء المخا، وتحويله إلى ميناء لاستيراد الماشية من الصومال ودول القرن الأفريقي.
ومنذ اندلاع الحرب عام 2015 وحتى الان، تستهدف جماعة الحوثي، بشكل متكرر، ميناء ومدينة المخا بصواريخ باليستية وطائرات مسيّرة.

النعمان بين أنتين

يقول المؤلف عبدالباري طاهر إن حياة الأستاذ النعمان كلها أنين ومرارة وألم، فقد تصدى للإمامة ودفع الثمن غاليًا من أمنه وسلامه وأمن أسرته وحياتها. مضيفًا أن النعمان تعرض للنفي والتشريد والاعتقال، ولم تهمد جذوته، وتعرض لحملات تشهير وتشكيك في الوطنية وصدق الانتماء.
ويرى الكاتب أن النعمان دفع الثمن باهظًا نفيًا واعتقالًا وحملات تشهيرية وتجريدًا من الجنسية، فانتهى به المطاف في جنيف. كتب أنته الأولى عام 1938، وفقًا للمؤلف، كانت منازلة للظلم ومقارعة للطغيان وكسرًا لقاعدة السمع والطاعة لولاة الأمور حتى الطغاة منهم، فكانت الصوت الذي أيقظ الأموات، وزلزل أركان الإمامة المتداعية، وكانت إيذانًا بولادة المعارضة السياسية المنظمة التي جسدها حزب الأحرار اليمني، مطلع الأربعينيات، في عدن، وعبرت عنها صحيفة “صوت اليمن”.
ولد أحمد محمد نعمان عام 1909، في قرية ذو لقيان عزلة ذبحان قضاء الحجرية في تعز، وتولى رئاسة وزراء الجمهورية العربية اليمنية لمرتين.
له العديد من الكتابات والمؤلفات، أبرزها الأنة الأولى (1937)، واليمن الخضراء (1939)، ومآل القضية اليمنية (1955)، وأهداف الأحرار ومطالب الشعب (1956)، وغيرها. وتوفي النعمان عام 1996، كتب قبل وفاته بسنوات آخر أناته.

الهم الأبرز للنعمان وضع دستور ديمقراطي دائم

كان الهم الأبرز للنعمان وضع دستور ديمقراطي دائم ينظم مسار الحكم بما ينهي التفرقة أو التمييز، ويحول دون عودة الحكم الفردي.
في رسالته إلى نجله وزير الخارجية الأسبق محمد أحمد النعمان، الذي تم اغتياله لاحقًا في بيروت، كتب النعمان الأب يقول: “لقد كان همنا الأكبر في تحقيق الأهداف التي رسمها الأحرار اليمنيون، والبحث عن الوسائل التي تساعدنا للوصول إليها. ولم نلتفت يمينًا ولا شمالًا، ولم نخض معارك جانبية حاول الكثيرون جرنا إليها، ولم نفكر في الدفاع عن أنفسنا من الحملات الظالمة، والرد على خصومنا بما تسود له وجوههم”.
ويضيف: “وكانت آخر معركة خضناها أول ما وصلنا إلى السلطة، هي معركة وضع الدستور الدائم وإعلانه حرصًا على كفالة الشروط الأساسية لقيام الديمقراطية على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين دون تفرقة ولا تمييز. وتحقيقًا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يعتبر الضمان الأكيد للحيلولة دون عودة الحكم الفردي”.
ويمضي النعمان الأب في رسالته كيف كان همه وجود دستور يكفل حق الأجيال اليمنية، ويحول دون تعرضها لحكم القهر والإذلال تحت أي لون من ألوان الديكتاتورية. يقول: “ولكن، ويا للهول، تكتلت القوى المعادية للدستور وللشورى في أول يوم أردنا فيه البدء بتطبيق الدستور، ونفذت مؤامرتها الدنيئة التي دبرتها بليل، واتخذت قرارًا باستبعادنا من المشاركة في السلطة وعضوية المجلس الجمهوري، عقابًا لنا ولكفاحنا وحماستنا لوضع الدستور، وخشية أن نصمم على تطبيقه مادمنا نحن الذين صممنا وحدنا على وضعه وإعلانه”.

مقالات مشابهة