المشاهد نت

طمس سبتمبر: خطوة رمزية لذبح اليمن

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمني

تعود ذكرى ثورة 26 سبتمبر مثل حلم يوشك على الانطفاء في مهد ولادته صنعاء. كل شيء من ملامحه تذبح دون دماء، ويتسلل لون أخضر في مكانه، علامة على إحياء ماضٍ دفين. فيما رموز سبتمبر تذبح على ميدان السبعين، وقد أحيل نصب الجندي المجهول، إلى ضريح لجمهورية سبتمبر وأكتوبر.
وفي ميدان السبعين كانت الحشود تجبر السيارات على التوقف، بينما تسير بخطى غير منتظمة على وقع طبول البرع الصاخبة. وتنضم إلى الحشود التي أصبحت بمثابة ممحاة للنصب الجمهوري في قلب السبعين.
هناك حيث استمر الاحتفال بذكرى 26 سبتمبر تقليدًا رسميًا لعقود،. فيما تحضر تفاصيل الاحتفال بالألعاب النارية، بعلامات، وإن كانت دعاية عرضية لسلطة، فهي تأكيد على اتصالها بلحظة فارقة في التاريخ اليمني. فيما يبدو أن اليمن تعيش لحظة جنائزية لتقطيع أوصالها، عبر إخفاء علاماتها الجمهورية.
أخبرني صديق يعيش في السعودية، أنه بينما يشاهد ملامح الاحتفال باليوم الوطني هناك، يوجعه قلبه على سبتمبر المغدورة في اليمن. أجبته بمرارة: العالم اتفق على تقطيع أوصالنا. وتشكلت أمامي صور قاتمة لهدنة تختمر في خفاياها اتفاقية، سبق أن صاغتها الحرب في اليمن، لترسيم حدود تتقاسمها الكيانات المسلحة.
كل شيء في الحرب كان يقود إلى هذا الطريق، فهناك خطوط حمراء لم يكن مسموحًا لأي طرف اجتيازها. هذه الملامح أيضًا حددتها الطرق المحرمة، تأكيد الحواجز بين اليمنيين، الحد من إمكانية تنقلهم السلس في الطرق الموجودة، والتي تدين معظمها لثورتي سبتمبر وأكتوبر، اللتين انبثقت منهما الوحدة اليمنية.
وبالطبع، لم تكن الصورة مثالية لجمهورية ظلت محكومة بالفشل، أو أنها لم تنجز مسؤولياتها كما يجب. لكن الصورة أيضًا تختلط، بين زلات السياسة الداخلية، وبين تصورات الخارج التي تسعى لفرض صيغة للشقاقات اليمنية وفق حواجز جغرافية. دون النظر إلى جوهر المشكلة الماثلة في مضمون السلطة، والتي من المحقق أنها ستعيد إنتاج نفسها بصورة أكثر تشويهًا.

تتحدد ملامح جمهورية مسلوبة عبر محاولة طمر رمزيتها. وهي الرمزية الباقية في عروض محدودة في تعز أو مأرب. وفي خيال جمعي يستعرضه تفاعل الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي. بينما صنعاء التي تغلفت بعلامات خضراء، استحضرها توقيت سبتمبري آخر، يوم سقوطها في الـ21 من سبتمبر لمقاتلي الحوثيين “أنصار الله”.


في هذا السياق، تتحدد ملامح جمهورية مسلوبة عبر محاولة طمر رمزيتها. وهي الرمزية الباقية في عروض محدودة في تعز أو مأرب. وفي خيال جمعي يستعرضه تفاعل الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي. بينما صنعاء التي تغلفت بعلامات خضراء، استحضرها توقيت سبتمبري آخر، يوم سقوطها في الـ21 من سبتمبر لمقاتلي الحوثيين “أنصار الله”. وبالتالي فرضت استحقاقاته السياسية وفق إحلال رمزيتها على حساب سبتمبر الأثيرة لدى اليمنيين، سواء باستحضار زمنها المتعارض مع ولادة الزمن الجمهوري، أو بتحويرها ملامح المكان.


ونرى طابعين؛ أحدهما اجتماعاتي تغذيه الشعارات المأخوذة برموز دينية، تشرعن استحقاقًا للحكم ماثلًا في تاريخ إشكالي تغذيه الانقسامات المذهبية.
أيضًا، تلك الأطروحة السياسية تلغي الأساس الجمهوري، الذي شرعنته ثورة وضعت ستة أهداف، بما فيها المساواة بين المواطنين اليمنيين، وبما في ذلك السعي لتحقيق الوحدة اليمنية.
فيما كان الشطر الجنوبي يرسم ملامح ثورته ضد المستعمر الإنجليزي في عدن. بينما هذا الأخير رعى ائتلافًا من السلطنات والمشيخات الموزعة في جنوب اليمن، تحت مسمى الجنوب العربي. كانت الغايات اجتثاثًا جغرافيًا وفق هوية سياسية. لكن اليمن كانت تولد،، فجاء لبوزة وآخرون من الجنوب، ليدافعوا عن ثورتهم في الشمال ضد ثورة الملكيين المضادة.
عندما عاد لبوزة، أطلق شرارة ثورة 14 أكتوبر، باسم اليمن الكبير. ما كان للجنوب أن يستعيد هويته التي عرفها علم اليمن الجنوبي، لولا هذا التعريف الأثير لثورة أكتوبر كثورة جنوب ينتسب لليمن.
مع هذا، نفس الراية التي ولد تحتها كيان جنوبي يمني ألغى السلطنات والمشيخات، يصبح رمزية للانفصاليين، لكن وفق هوية اصطلحها العهد الاستعماري، أي الجنوب العربي.
وهذا المسعى تم اشتقاق كيان عسكري وسياسي له يعرف بالمجلس الانتقالي. واللافت أن قائد المجلس هو نفسه عضو في المجلس الرئاسي، الذي جرى تلفيقه في مؤتمر الرياض الأخير.
ومنذ سيطرة الانفصاليين على عدن، سقط علم اليمن، وجرى محوه من الفضاء العام. مع اعتراف بثورة أكتوبر بوصفها جزءًا من هذا الجنوب، وفي صيغة انفصامية لعلاماتها. فهي تدعي حقها السياسي على كل الجنوب وفق اصطلاح المستعمر، وتتخذ راية ثورية تحققت بفضل الدماء والتضحيات ضد ذلك المستعمر.
وبالتالي سنرى سبتمبر محظورًا، لا يسمح بأي ملامح رمزية له في مناطق سيطرة الحوثيين، وكذلك في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي. بينما حضور علم الجمهورية اليمنية، سنلحظ أثره طفيفًا، ويكاد يكون محصورًا في بعض المباني الحكومية في صنعاء. ويتم استبداله بشعارات الجماعة، بل يتم استخدام أسماء لها تقديس، مثل اسم النبي محمد، وبجانبه شعارات وعلامات أخرى، لمحو الهوية الجمهورية بهالة مقدسة، ونقل اليمن من طبيعة مشكلتها كجمهورية موحدة بحاجة إلى إصلاح سياسي يقومها، إلى مشكل غيبي، تفرزه تراتبيات.

أن الهوية اليمنية مازالت تتغلب في الوجدان الشعبي. ولنا مثال في فشل تغذية الصراع المناطقي في عدن، إثر قيام عناصر المجلس الانتقالي بطرد شماليين والاعتداء على محلاتهم. أيضًا فوز منتخب الناشئين ببطولة غرب آسيا، أي بطولة إقليمية، جعل اليمنيين يحتفلون من شمالها البلاد إلى جنوبها.


نفس الصورة تلتقي من حيث استعارتها رموز الماضي، هي إحالة الجنوب إلى مشكلة وجودية أساسها وجود محتل أو غاصب يمني. وهي الصورة المنسلخة التي حددت ملامحها في استعارة هوية سياسية استعمارية.
ودائمًا ما يعني ذلك إسقاط سبتمبر، وتجريف تاريخه من الوعي اليمني، بتغليب إرادات تفرضها القوى المهيمنة. أي إحالة اليمن إلى مسرح هويات ناقصة ومتضاربة.
هناك صيغ مصطنعة جرى الرهان عليها في مسار الحرب، وتولدت حدود تتقاسمها قوى عسكرية مختلفة. غير أن الهوية اليمنية مازالت تتغلب في الوجدان الشعبي. ولنا مثال في فشل تغذية الصراع المناطقي في عدن، إثر قيام عناصر المجلس الانتقالي بطرد شماليين والاعتداء على محلاتهم. أيضًا فوز منتخب الناشئين ببطولة غرب آسيا، أي بطولة إقليمية، جعل اليمنيين يحتفلون من شمالها البلاد إلى جنوبها. كانت مناسبة لإعادة الاعتبار للعلم اليمني المهمش حتى في المناطق المحظور تواجده بها.
بينما يبدو أن الرهان سيكون على عامل الوقت، الذي من شأنه تكريس هويات جديدة، وفرضها كواقع، تتغير فيه الهوية السياسية والوطنية، واستبدال الخريطة القائمة بأخرى منقسمة.
وهذا التماهي لا يقتصر فقط على إزاحة سبتمبر، بل يتماهى مع خبرة استعمارية. وهي الخبرة التي تتكهن بماضيها الإشكالي، بوصف تلك الخرائط الشرق أوسطية والحدود، اصطنعها الاستعمار الغربي نفسه. ما يعني تخويلًا للسياسة الدولية بإعادة صياغة ملامحها من جديد، وتقسيمها. كما لو أن بلدانًا مثل العراق وسوريا واليمن، وحتى مصر، تشكلت هوياتها قبل ظهور الدول الغربية المركزية.
وهناك تفسير آخر لتشكل هويات وطنية في إندونيسيا والهند الصينية، تشكلت في المراكز الاستعمارية. وهو ما يفسره صاحب كتاب “الجماعات المتخيلة”، بأنه تأسس في المدارس الكولونيالية، وجامعاتها، وبالتالي تشكل فسيفساء هوياتية متعارضة تعلن انتسابها لإندونيسيا. كما أن المصطلح السياسي للوطن الإندونيسي، اشتق مما كان يطلقه المستعمرون الهولنديون على مواطني مستعمراتهم Indonise، والذي حمل مضمونًا يحط من شأن تلك الجماعات التي يستعمرها.
هذا الأمر، يفرز نفسه في الفضاء السبتمبري الذي يتعرض للاجتثاث، فنرى المناهج التعليمية في مدارس صنعاء تتعرض لتعديلات مهمة. فيتم تطعيم كتب الدين والتاريخ برمزيات جديدة، ومفاهيم جديدة تتماهى مع توجه السلطة القائمة في صنعاء. وهي عملية لن تتوقف، كما أن سبتمبر لم يعد له مساحة في المخيال الجمعي، وكذلك يجري التعديل على الهوية الوطنية، بأشكال جزئية.
أيضًا في مدارس الجنوب، يجري إخفاء النشيد الوطني اليمني. مع المفارقة أنه كان النشيد الوطني لدولة جنوب اليمن، وجرى اختياره ليكون النشيد الوطني لليمن الموحد.
ومن غير المستبعد إذا جرى فرض حق تقرير المصير، والذي أصبح له تمثيل في المجلس الرئاسي، ستتعرض المناهج التعليمية لتغييرات جوهرية.
وما نراه من نعش سبتمبر في الواقع السياسي، إنما هو سياق لتحوير التاريخ اليمني وجغرافيته، وفق اصطناع واقع يتكيف مع مطامح الاستعمار. وليس هذا الكلام من قبيل المبالغات التي تحيل كل شيء لمؤامرة. إنها تصورات جيوسياسية تتوافق مع مصالح دول كبرى. وجرى تعريفه بما أطلقته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، الشرق الأوسط الجديد. لكن غاياته ربما تشمل حتى القوى الإقليمية المتماهية معه في الأزمة اليمنية. لهذا هناك تحوير يستهدف إعادة تشكيل النظام العالمي، بتفتيت ملامح أسهمت فترة الحرب الباردة بتشكيلها. وما كان ليمن سبتمبر وأكتوبر أن تولد خارج ذلك السياق التاريخي.

الأكثر قراءة