المشاهد نت

التنظير الخليجي في انفصال اليمن

مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب وباحث في الشؤون السياسية

في ظل عالم مدموغ بالاعتماد المتبادل وتلاشي الحدود الصارمة، لم يعد موضوع اليمن شأنًا محليًا صرفًا كبيتٍ مغلق النوافذ تحتدم فيها المعارك بين صغاره. اليمن بانتمائه إلى هذه الكرة الأرضية، وإلى هذا العالم السياسي بنظامه الدولي الحالي وشبكات التواصل والتبادل، يؤثر ويتأثر بلا شك. أبوابه ونوافذه مشرعة لكل ريح.
ها هي وسائل التواصل، خصوصًا “توتير” -الأكثر استخدامًا خليجيًا في التفاعل- تضج بأسماء كثيرة تحمل ألقابًا أكاديمية مهيبة تتناول الشأن اليمني. كان الأمر أفضل لو لم تكن الحرب في اليمن هي الدافع الأكبر لهذا الاهتمام. بالطبع، الاستقرار والأمن في اليمن مصلحة كبيرة لليمنيين وجيرانهم على الصفتين من البحر الأحمر.
لكن هناك أصواتًا عديدة خليجيًا تنطلق من سياقها المحلي، وتطرح أفكارها تجاه اليمن، مجرِّمة العمل السياسي الحزبي من ناحية، وتنساق وراء دعوات انفصال اليمن في سبيل حل هذه الأزمة المستفحلة التي انخرطت فيها دول خليجية بطريقة منسجمة أو متعارضة.
لنأخذ الجزئية الأولى الخاصة بالحياة السياسية. فالشحذ المستمر في تجريم العمل الحزبي في اليمن، وترهيب الأطراف السياسية بدوافع خارجية، يدفع باليمن إلى المجهول. ماذا يراد سياسيًا لليمن بعد تجربة سياسية وحزبية؟ ما هي الصيغة التنظيمية المقبولة في البلاد؟ الحزب الواحد أم نظام عشائري، نظام ملكي أم ديكتاتور مستنير؟ بعيدًا عن قابلية تحقيق أي من هذه المستويات أو التصورات، فإنها جميعها تصب في صالح الحوثي، لأنه في جوهره انقلاب على الحياة السياسية والحزبية وعلى التنوع والتعدد والبناء التنظيمي في البلاد.
ثانيًا، بخصوص الانفصال. ما يفعله بعض مُنظّري انفصال اليمن من غير اليمنيين، هو خطوة معكوسة للاستقرار. وربما لا يوجد غير أناس من دول الجوار الخليجية ممن يطرحون هذا الطرح الانفصالي النزعة على عكس بقية العرب المتابعين للشأن اليمني ممن يتورعون عن مساندة تشطير بلد عربي. ينطلق منظّرو الانفصال من معرفتهم لتباينات وتناقضات وتاريخ الصراعات في المجتمع اليمني بشماله وجنوبه السياسيين. لكنهم بمعرفتهم هذه يتصورون قدرتهم على فرض منطق القطيعة مع التاريخ وعدم الاستقرار السابق.
ليس جديدًا أن يكون التاريخ اليمني مضطربًا، وأن الدولة اليمنية بمعناها الحديث ناشئة. فهذه سمة كل البلدان. لكن ما يعاب على هذا التفكير هو استغلال سمات أي مجتمع وتوظيفها نحو وجهة متعسفة. وسنبرهن على أن الانفصال لا يمثل حلًا مطلقًا لتباينات مجتمع ما. لاسيما والتباينات لا تقف عند مستوى شمال وجنوب فقط. هي رأسية وأفقية على صعيد جغرافي أصغر من محافظة واحدة، وليس على صعيد شطري يُستحَضر حصرًا لفهم لشأن اليمني والبت فيه.
كما أن شراكة المجلس الانتقالي الجنوبي صاحب دعوة الانفصال بصفة حصرية وممنهجة، وانخراطه في تشكيل حكومة بعد أن غدا جزءًا حاكمًا في مجلس القيادة الرئاسي، تنفيان مرتكز “الحرمان النسبي من المشاركة” للمطالبة بالانفصال. وأبعد من الشراكة، يبسط الانتقالي سيطرته الفعلية على مراكز القوة والإيرادات في العاصمة المؤقتة عدن، وهذا التحول ينقله من مطالبٍ بالانفصال إلى شريكٍ مسؤول في إدارة البلاد وفق تفاهمات أشرفت عليها دول خليجية متصدرة المشهد في اليمن. ينتمي إلى هذه البدان هؤلاء المنظّرون في مجافاة واضحة لمقصد الجهود الدبلوماسية والسياسية لدولهم في اليمن.

خصوص الانفصال. ما يفعله بعض مُنظّري انفصال اليمن من غير اليمنيين، هو خطوة معكوسة للاستقرار. وربما لا يوجد غير أناس من دول الجوار الخليجية ممن يطرحون هذا الطرح الانفصالي النزعة على عكس بقية العرب المتابعين للشأن اليمني ممن يتورعون عن مساندة تشطير بلد عربي


هذه التفاهمات تجعل من مسألة مستقبل الانفصال حالة سياسية ينبغي استيعابها في إطار توافقات يمنية جمعية يكون الوصول إليها بصيغة سياسية حضارية خارج استعمال القوة.
إذن، لا معنى لاستغلال المطالب الانفصالية والترويج لها عبر غير اليمنيين أحيانًا بألفاظ عنصرية تتسق وادعاءات التفوق الحضاري والمدني للجنوب مقابل همجية وتخلف الشمال دون مبرر.
بل إن هناك أنموذجًا إرشاديًا يسود في التعامل مع الشأن اليمني من منطلق الحرب على الإرهاب ومكافحة الإخوان. وهذا الباراديغم يضع كل يمني مختلف مع فكرة الانفصال داخل خانتي الإرهاب أو الأخونة كقوالب جاهزة للترهيب وخنق الفضاء العام فكريًا وسياسيًا. بمعنى آخر، هناك ترهيب جاهز لأية ممارسة نقدية وعقلانية تتعامل مع الخطاب السياسي السائد في الشأن اليمني. أقول نقدية وعقلانية، وهذا لا ينفي أن هناك ردود فعل طائشة وغير مسؤولة وتجريحية.
هذه الدعوات الخارجية التي أمعنت فقط في فحص التباينات الاجتماعية وتقلبات التاريخ، تعاني من كسل ذهني يحول دون التفكير في حلول حقيقية تساعد اليمنيين في الخروج من التناقضات والتباينات المزمنة واستدامة الصراع.
قادها الكسل إلى الأخذ بأسهل صيغة قسرية، وهي فصل البلاد، وكأن الفصل هو الحل الضامن والمضمون لكل تباينات الماضي. ذهب الكسل أيضًا بهذه العقول إلى ابتسار الماضي والاستسلام لآلية التثاقف الشفاهي المشحون والتلقي اللفظي والاستماع لطرف واحد ونسخة واحدة من شؤون اليمن وشجونه وتاريخه السياسي متحيزة بالطبع.
فقبل الوحدة كانت هناك تباينات وصراعات وحروب. وبعد الوحدة وجدت التباينات والصراعات والحرب. إذن، المشكلة ليست في الوحدة، والحل ليس في الانفصال. الحل أعقد من ذلك، ويتطلب جهدًا فكريًا نزيهًا.

في البلدان الخليجية، هناك نفط فائض وعدد سكاني محدود وعلاقات اجتماعية راسخة ومؤطرة سمحت بالتنمية. من جهة، اليمن بلا ثروات ريعية فائضة، وفيها تنوع، والأطر الاجتماعية أعقد من تقييدها بـ”شخط الوجيه”، وما عادت “الرجاجيل تحبل بلسانها”. ومن جهة أخرى،


ولا يتوقف الأمر على عودة التشطير فقط. لكن التشطير يبشر أو ينذر بعودة الديكتاتورية والاستفراد بالحكم والطغيان، وعدم ترشيد القرار السياسي، بالتالي ارتهان الشطر الواحد لاستقطابات إقليمية حادة، وانتقاله بين القطب ونظيره لمجرد مزاج خارج عقلنة اتخاذ القرار السياسي. فضلًا عن أن التشطير لا يعني وجود كتلتين يمنيتين فقط يمكن من خلالهما الشروع في عملية تنمية اقتصادية. لاسيما وهذه التنمية في البلدان الفقيرة تتطلب شيئًا أكثر من الديكتاتور المستنير الذي لا تبدو ملامحه إلى اللحظة في كل الزعامات المحلية المهيمنة على المشهد. لا يمكن أن تكون عدن مثل دبي، ولا صنعاء كالدوحة.
في البلدان الخليجية، هناك نفط فائض وعدد سكاني محدود وعلاقات اجتماعية راسخة ومؤطرة سمحت بالتنمية. من جهة، اليمن بلا ثروات ريعية فائضة، وفيها تنوع، والأطر الاجتماعية أعقد من تقييدها بـ”شخط الوجيه”، وما عادت “الرجاجيل تحبل بلسانها”. ومن جهة أخرى، التشطير الاجتماعي والاستقطابات وسطوة الفكر السلفي في مناطق الجنوب ومناطق الشرعية إجمالًا أو العقيدة الطهورية الحوثية لا تتيح مجالًا للتفكير بتوطيد نمط ليبرالي يساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية بمعزل عن التنمية السياسية وطريقة رشيدة للحكم والمشاركة (الديمقراطية).
القصور والتقصير في قراءة الماضي بشموليته وتنوع مصادره وموازنتها بموضوعية للوصول إلى منطق يحجب رؤية المستقبل، لأن الخواتم في البدايات.
يعاب في هذه الأصوات النظر في المستقبل خارج استنطاق الأطر المؤسسية التي يمكن أن تكون رافعة للمستقبل. من منظور ليبرالي لا بد من مؤسسات ضامنة للاستقرار، وأولى هذه المؤسسات هي الأحزاب لتقنين العنف وضبط التعبئة واحتواء التباين وتثمين التنوع.
حقيقةً، من لا يعرف الحياة الحزبية في بلاده، لا يستطيع تصورها واستيعاب الانقسامات الحزبية في بلاد أخرى.
يتصور جيراننا الخليجيون التباينات الحزبية في اليمن على أنها انقسامات جوهرية أثنية عرقية مذهبية لا يمكن معالجتها مع الزمن. وهي في الحقيقة اختلافات رأي وتصور يمكن معالجتها بالتوافق، لأنها في جوهرها مشتركة، وظاهرها مختلف. حتى الاختلاف المذهبي الذي يعمقه الحوثي، يمكن معالجته بصياغة قواعد مشتركة كما حاولت الجمهورية فعله منذ ستينيات القرن الماضي؛ تقنين الشريعة، تحييد التعليم، بث ثقافة وطنية، تعزيز الحريات العامة، ورعاية الأقليات في إطار خاص.
ثم إن اليمن أكبر من الإخوان والإصلاح الذي لا يمثل انتخابيًا إلا زهاء 20% من القاعدة الانتخابية. ولهذا لا يجب حشر اليمن في جلباب الإخوان الضيق، وهذا الخصم الطارئ، بعد أن كان ينعم بالمال الخليجي والدعم. قد تدور الأيام، ويغدو العدو صديقًا والصديق عدوًا. فمن يدري!

الأكثر قراءة