المشاهد نت

جنوب – غرب: تقسيم اليمن في مفترق الطريق

جمال حسن

جمال حسن

صحافي يمني



نزلت أحداث عدن الأخيرة كالصاعقة، فأكثر الناس تشاؤماً لم يتوقع أن تجري الأمور بتلك الصورة. لكن الأكثر غرابة هو الشكل المسرحي الذي ظهرت فيه السعودية كما لو أنها تعرضت لطعنة من حليفها الإماراتي. وهو ما استدعى نائب رئيس المجلس الانتقالي، هاني بن بريك، إلى إرسال تحدٍّ للسعودية، وهو يلمح بأن الحوثيين صمدوا 5 سنوات أمام الطيران. مع هذا لا يبدو أن سقوط عدن جرى دون تواطؤ سعودي أو توافق حوله مع الإمارات.
تلك اللهجة المتحدية أصبحت شكلاً يتخذه المجلس الانتقالي في خطابه، حتى أثناء لقاء بعض المتحدثين باسمه على “العربية”. وآخر شيء وجه المتحدث باسم المجلس الانتقالي رسالة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تحثه على التعامل معهم لكسب الحرب ضد الحوثيين.
ومن المضحك القول إن هناك خلافاً جوهرياً بين الحليفين في الحرب اليمنية، فالأمر برمته محاولة لتجميل الموقف السعودي المتواطئ مع المجلس الانتقالي. ولم يبدر أي موقف رسمي سعودي أو إماراتي ضد تحركات المجلس الانتقالي للسيطرة على عدن. وتغاضت عن سقوط قصر معاشيق مقر إقامة الحكومة اليمنية، ثم فجأة أصدرت بياناً قوي النبرة. لكن الضربة وقعت على الرأس، وتم تسليم عدن للانفصاليين، الذين كانت غالباً تحت سيطرتهم.
في هذا السياق، أعطت السعودية الضوء الأخضر لقيام العملية، وهو ليس تكهناً، لكن بناء على معلومات لما جرى هناك مع هادي وحكومته. كان المجلس يبحث عن الذرائع، ووجدها في مقتل أبو اليمامة، القيادي في الحزام الأمني، وأيضاً سقوط جرحى في عملية تفجيرية تم نسبها لداعش. غير أن العمليتين، بما فيهما مقتل أبو اليمامة، أصبحتا مثيرتين للريبة، إذ استدعتا كل ذلك. وتبنى الحوثيون علاقتهم بالعملية، لكن المجلس استحضر كل أشكال نقمته بناء على الهوية، محرضاً ضد الشماليين.
ومع بدء التحركات العسكرية، كان المسؤولون السعوديون يبعثون بالتطمينات إلى الجانب اليمني، أن القيادات السعودية سوف تتدخل لدى الإمارات من أجل إيقاف المعارك. قالت المعلومات إن هادي جهز خطاباً يعلن فيه طرد الإمارات من التحالف. ذلك أنها تقود المعارك بصورة واضحة. لقد تُرك ساعات بانتظار ولي العهد، ضمن وعد لزيارته، ثم قيل له بأنه تم تأجيل الزيارة إلى اليوم الآخر. ساعات ثم يوم… وهكذا، حتى انتهت المعركة. هل فقدت الحكومة الحيلة، أو أنها رضخت لقيود سعودية؟ هذا أيضاً يثير السؤال حول طبيعة وجودهم هناك؛ فالمراقبة الشديدة للمسؤولين اليمنيين هناك أمر طبيعي، لكن ماذا عما هو أكثر من ذلك؟
أعفى هادي أيضاً طاقم خدمته اليمنيين في مكان إقامته بالرياض، مبرراً أنه يريد البقاء مع أسرته. هل أقنعته السعودية تحسباً لتسرب معلومات حول وضعه الصحي، كافتراضية حسنة النوايا؟ لكن لا يمكن استبعاد إحاطته بقيود شديدة. وهذا ما يمكن ملاحظته في الظروف الحالية لسقوط عدن بيد الانفصاليين، الذين أصدروا بياناً، الخميس الفائت، يمنح أنفسهم الحق بإدارة المناطق الجنوبية، بل إن عملية السيطرة على المحافظات على الأرجح، لن تتوقف؛ الإمارات تستمر بتدريبات شباب من جزيرة سقطرى، بغرض تشكيل حزام أمني هناك تابع لها. وكذلك التلميحات المستمرة للمجلس الانتقالي بالسيطرة على المنطقة العسكرية الأولى في سيئون.
تقول المعلومات إن الرئيس هادي كان جهز خطاباً يؤكد فيه استغناء اليمن عن التدخل الإماراتي. هذا السكوت المريب يجعلنا نثير أسئلة عديدة. تدخل السعوديون، لطمأنة الجانب اليمني، بأن ولي العهد سيتدخل لدى الإمارات، وسيتم إيقاف إطلاق النار. كانت عدن على مشارف السقوط، والسعوديون يرفضون أي خطاب رسمي أو تعليق على الأحداث. تواصل مكتب ولي العهد محمد بن سلمان، مع هادي، وأخبره بأن الأمير سيقوم بزيارته لمناقشة تطور الأحداث، واستمرت التطمينات بأن السعودية لن تسمح بسقوط عدن. ومع تصاعد الأحداث، بدت الشرعية فاقدة الحيلة، واختارت الانتظار لما سيفعله السعوديون. لكن المدينة سقطت، وانتهى كل شيء.
تلك المعلومات تثير الشكوك حول الموقف السعودي مما يدور؛ بل من الحمق الوثوق بأن الإمارات تتصرف بمعزل عن الإرادة السعودية. وبدا الجميع مذهولاً من الخذلان السعودي، بل إن البعض فضل عدم تصديق ضلوعها. ظهرت أصوات نخب سعودية عقلانية في الردهات الحائرة لصدمة الشرعية وحكومتها، تتحدث عن أن ما جرى خطير على الأمن السعودي. ورغم صحة ما قالوه، إلا أن دائرة القرار تحركها أهواء سلطة الفرد المطلقة.
كان الأمر برمته ومازال غير قابل للتفسير.
أين تكمن مصلحة السعودية وحتى الإمارات، مما جرى في عدن؟ فما جرى يثير النوايا الحقيقية من وراء التدخل السعودي- الإماراتي. بمعنى أن التقسيم هو المشروع الواضح من استمرار الحرب في اليمن. وللأسف استغل الجميع التشويش والشقاقات اليمنية لتمريره بالصورة التي تحلو للسعودية. فاليمن، كما يبدو، ذاهبة لأكثر من مشروع انفصال، ويتم دفعها نحو تقسيم تبدو بعض ملامحه مقررة مسبقاً، حتى في بيان الانتقالي الذي أشار إلى جنوب فيدرالي.
الأرجح أن كل شيء كان مقرراً، وتداخلت الأحداث المدفوعة بخزان النفط المجاور على سطح اليمن، هدفه الرئيسي إعادة رسم الخارطة السياسية في اليمن، بل تقسيمها بحيث يتم حصر أي تواجد إيراني في منطقة جغرافية محددة، إذا توقفت الحرب في نقطة معينة. وعملياً، توقفت الحرب في صورتها الأولى، وتجري مجموعة معارك منفصلة غايتها تهيئة المشهد لرسم خارطة سياسية يمنية جديدة، يمكن للتحالف السعودي الإماراتي دفع صراعاته. سقوط عدن حلقة في سلسلة طويلة من الصراعات التي سيدفع اليمنيون ثمنها من دمائهم.
بل إن النظام السعودي تعالى أن يرى في التهديد الإيراني لحظة حقيقية تتقاطع فيه مصالحه مع حليفه في اليمن. والواضح أن هناك ديماغوجية سياسية بالنسبة للسعوديين إزاء اليمن، وهو ما يجعلها دائماً مصدر تهديد، سياسي بدرجة أولى. ودائماً ما كانت تتدخل ضد التحولات السياسية، حدث ذلك في ثورة 62، ودعمت الملكيين لإسقاط النظام الجمهوري، ووافقت على مضض على النظام الجمهوري بعد انقلاب سيطرت فيه الطبقة التقليدية على الحكم في صنعاء. حتى في الجنوب كانت لديها إشكالية، وهو ما حدد شكلاً للتحالف مع الشمال. وكان الشمال ذو الكتلة السكانية الكبيرة، يجب أن يكون تحت هيمنتها. سبق وتدخل عبدالعزيز آل سعود، مؤسس المملكة، في ثورة 48، التي طالبت بالدستور. ومن اليمن ظهرت الجمهورية والثورة، وكذلك الاشتراكية في عصورها الذهبية، وحتى الفيدرالية.
لم يكن مقبولاً أن تبقى اليمن مصدراً للبدع السياسية المتعارضة مع ملكية مطلقة لنظام آل سعود. وتولد لدى السعوديين اعتقاد أن كل مسألة سياسية في اليمن شأن محلي. لذا تصرفت بريبة إزاء الوحدة اليمنية، وتدخلت في حرب 94 مع الطرف الانفصالي ضد صالح. والواضح أن كل أنظمة الخليج دعمت الانفصال بما فيها الإمارات. فهل أخذ التدخل السعودي- الإماراتي على عاتقه الثأر من كل تلك القضايا في اليمن؟
ماذا تبقى لهادي؟ مازال هو الرجل المعترف به دولياً كرئيس شرعي، مع أن كل شكل لسلطته مقوض، وتكالب عليه خصومه وحلفاؤه. وعندما تدخلت السعودية في الحرب اليمنية، لم يسعف هادي الوقت ليقدم طلباً رسمياً للسعودية بالتدخل ضد تحالف الحوثي وصالح ضده. كما أن السعودية لم تتدخل من أجله حين عجزت الحكومة عن تأمين قيمة الاحتياجات المحلية من المشتقات النفطية، فاضطرت الحكومة لرفع الدعم عنها، وكان مدخلاً لسقوط صنعاء.
ربما يعتقد البعض في عدن، أنه سيتم إلحاق الجنوب في الخليج، رغم أن من الوهم المراهنة على استقرار بمعزل عن الآخر، لن يكون هناك في اليمن سوى حل شامل، أو ستتواصل الحروب.
وفي عدن سقطت الكثير من الأقنعة، ربما يبدو الأمر تحقيق مأرب أو مشروع، لكن الرياض وأبوظبي سقطتا سياسياً وأخلاقياً، مقارنة بنظام إيران الذي بدا متماسكاً وقوياً في مواجهة الأزمات التي عصفت به. يتعامى شيوخ النفط عن ضراوة خصمهم، وتمادوا بإشعال النيران في اليمن، وخلق بذور الصراعات، لكن ذلك مرجح أن ينتهي في قصورهم.

الأكثر قراءة