المشاهد نت

أزمات متوالدة على خارطة يمنية مبعثرة

عبدالله محمد الدهمشي

عبدالله محمد الدهمشي

كاتب وصحافي يمني

تتسم المأساة اليمنية الراهنة بطابع الاستمرار الذي يتزايد عمقاً وتجذراً كلما تزايدت تعقيدات الحاضر، وتوالدت من المأساة فصول من الأزمات المتشعبة في خارطة مبعثرة على السياسة والجغرافيا.
تكاد تطورات الأحداث المتسارعة في محافظات جنوب اليمن، والممتدة بين شبوة وعدن، أن تختصر المأساة في عناوين دالة على توالد الأزمات وتعقيدات مساراتها على المستويات السياسية والعسكرية، وفي حدود الجغرافيا المبعثرة بين الجماعات الانعزالية مناطقياً وطائفياً، في ظل غياب الوطنية اليمنية، وحضور التجاذبات الإقليمية.
ربما تشير الأحداث التي تلت يوم الـ9 من أغسطس 2019م، إلى ميلاد إشكالية جنوبية جنوبية، من رحم القضية الجنوبية التي ذهب بها المجلس الانتقالي إلى إشكاليات التبعثر السياسي فوق الجغرافيا الجنوبية نفسها، وبما وضع الحكومة اليمنية الشرعية في مواجهة ما تسميه الانقلاب الثاني في عدن، والمدعوم من عضو تحالف دعم الشرعية؛ الإمارات.
هكذا تتوالد الأزمات، ويتعثر الحسم العسكري والحل السياسي، دون أفق مفتوح على الأمل بتحولات ممكنة نحو استعادة السلام والاستقرار. فلماذا تتوالد الأزمات، وتزداد المآسي اليمنية حدة وشدة؟ وكيف تنحرف حركة الصراع عن مسارات الحسم إلى متاهات التعقيد والتبعثر المستمر فوق جغرافيا لم تعد حاضنة وطنية للشعب المسحوق بالأزمات؟

أولاً: التناقضات الانعزالية:


تعمل تناقضات القوى الانعزالية على بعثرة الاتجاهات السياسية في الجغرافيا وبين السكان، لتتوالد بذلك أزمات الصراع على الهوية والنفوذ، والمصالح المحدودة طائفياً وجهوياً.
فقدت الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية، دورها في الأحداث التي ابتدأت في 2004م، بالظهور الحوثي المسلح، ثم غرقت في “قضية صعدة” شمالاً، وفي الأحداث التي ابتدأت العام 2007م، بالحراك الاحتجاجي السلمي جنوباً، ثم عرفت بـ”القضية الجنوبية”. وبفقد الأحزاب هذا الدور، تنامت الاتجاهات الانعزالية طائفياً بالحوثيين، وجهوياً بالحراك، لتبتعد عن الإطار الوطني الجامع، إلى هويات ما دون الوطن.
عملت الظاهرة الحوثية على إثارة النعرات السلالية والانعزال عن الوطنية اليمنية على أساس طائفي، وجعل الصراع السياسي على ولاية الحكم وإدارته دينياً، وبطابع وأسلوب عسكريين، ثم جاءت أحداث 2011م، وما رافقها ونتج عنها من عمليات تفكيك لبنية السلطة ومراكز قوتها في الجيش والإدارة، لتمنح الحركة الحوثية المسلحة فرصة للسيطرة العسكرية على الجغرافيا، ابتداءً من صعدة التي أحكم الحوثيون سيطرتهم عليها في 2011م.


وابتدأ الحراك مع العام 2008م، توجهه الانفصالي، باحثاً عن هوية جنوبية منعزلة عن وطنيتها اليمنية، معادية للشمال، في ظل تمادي أخطاء السلطة الحاكمة في معالجة خطاياها بعد حرب صيف العام 1994م، وفي ظل غياب الرؤى السياسية المعبرة عن القضايا الوطنية لدى الأحزاب اليمنية.
هكذا تبعثرت الجغرافيا الوطنية تحت سيطرة التناقضات الانعزالية طائفياً وجهوياً، ليكون فشل مؤتمر الحوار الوطني، في 2013م، مقدمة منطقية لتنامي هذه التناقضات وتزايد نفوذها المسلح، ثم سطوتها على الدولة والمجتمع، وتوالد الأزمات من تناقضاتها الانعزالية في الشمال والجنوب.
هكذا تضع المعادلة الانعزالية تناقضاتها في مسار المأساة التي تتوالد أزماتها، وتتبعثر خرائطها بين الطوائف المسلحة والاتجاهات الانفصالية التي أصبحت في الجنوب تناقضات مناطقية، كما هي في الشمال، في ظل تغييب متصاعد للوطنية اليمنية وتجسداتها في الجغرافيا السياسية.

تبعثرت الجغرافيا الوطنية تحت سيطرة التناقضات الانعزالية طائفياً وجهوياً، ليكون فشل مؤتمر الحوار الوطني، في 2013م، مقدمة منطقية لتنامي هذه التناقضات وتزايد نفوذها المسلح، ثم سطوتها على الدولة والمجتمع، وتوالد الأزمات من تناقضاتها الانعزالية في الشمال والجنوب.

ثانياً: تناقضات التدخل الخارجي:


منذ تحرك دول مجلس التعاون الخليجي في أزمة العام 2011م، بمبادرة الحل السياسي وتحديد مرحلة انتقالية لتغيير نظام الحكم القائم حينذاك، وهذه التحركات مصحوبة بتناقضات المصالح، ومشحونة بتجاذباتها الإقليمية والدولية.
ابتدأت تناقضات التدخل الخارجي من خروج قطر من المبادرة الخارجية، وذهابها لدعم حزب الإصلاح (جماعة الإخوان) في اليمن، ثم تعمقت هذه التناقضات بتدخل إيراني داعم بالمطلق لحركة الحوثيين، وباحث في الجنوب عن حلفاء في الحراك، باستضافة القيادي الجنوبي علي سالم البيض، في ضاحية بيروت.
غير أن تناقضات التدخل الخارجي كانت أشد تأثيراً مع أزمة قطر، حيث تبنت الإمارات توجهاً معادياً لأكبر مكون بتحالف الشرعية (حزب الإصلاح)، باعتباره جماعة إخوان اليمن الموالية لقطر. وكانت من نتائج هذا التوجه، قيام قوة عسكرية من النخب والأحزمة الأمنية، متناقضة مع تحالف الشرعية ومع قوى جنوبية أخرى.
وبهذا أصبح الجنوب -كما الشمال- جغرافيا متناثرة تحت حراب الجماعات المتناحرة، وانعكاساً لتناقضات التدخل الخارجي، وفي عمق التحالف الذي يخوض حرباً في اليمن، دعماً لتحالف الشرعية، وفي مواجهة التمدد الإيراني عبر الحوثيين.
وحتى الوصاية الدولية على الأزمة اليمنية عبر المبعوث الأممي إلى اليمن، من جمال بن عمر إلى مارتن غريفيث، وقعت تحت هذه التناقضات المزدوجة للقوى الانعزالية في الداخل، وللتجاذبات الإقليمية من الخارج، فوصلت بجهود التسوية إلى طريق مسدود، وضاعفت من حجم ومساحة المأساة الإنسانية غير المسبوقة في عالم اليوم.
والأهم في هذه التناقضات أنها عملت على:
· توليد الصراعات: وبمعنى آخر، عملت على تمدد الصراعات وإعادة تدويرها لتتوالد بصور مأساوية، كما هو الحال في الصراع بين حزب الإصلاح وكل من السلفيين في تعز والجنوب، وفي صراع الحوثيين مع حليفهم السابق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
– تجميد المسار العسكري: ذلك أن الصراعات المتولدة من تمدد التناقضات بين وداخل أطراف الصراع، عملت على خلق معارك جانبية، وخارج سياق عملية استعادة الدولة من قبضة المليشيات الحوثية.
– تعطيل المسار السياسي: وذلك أن تعددية أطراف الصراع وتناقضاتها الانعزالية عملت على تمدد الصراع وتعددية القوى العاجزة عن صياغة الرؤى السياسية للتسويات والحلول السلمية.
– وهكذا تناثرت الجغرافيا بين قوى متناقضة التوجه والأهداف، ومسيرة بتناقضات التدخل الخارجي وتجاذباته، بين الرياض وطهران أولاً، ثم بين الدوحة وأبوظبي ثانياً، لتفرق اليمن في مأساة مستمرة بدون أفق مفتوح على نهاية قريبة، حيث جاء الانفتاح على حرب جنوبية – جنوبية، بالارتهان لمعادلات الخارج التي تجعل المأساة اليمنية هامشاً لأولوياتها البعيدة عن مصالح اليمنيين.

الأكثر قراءة