المشاهد نت

فتح المعابر أم تجارة المواقف؟

وضاح الجليل

وضاح الجليل

كاتب وصحافي يمني

لن تفتح المنافذ في تعز لأسباب إنسانية؛ فالطرف الذي فرض على تعز المدينة والكثير من أريافها، حصاراً مطبقاً لأكثر من 4 سنوات، وانتهج مع أهاليها كل وسائل القتل والتنكيل، وفشل في اقتحامها، بل إنه طُرد من عدد من أحيائها؛ هذا الطرف لن يصبح إنسانياً فجأة.
أصيب الحوثي بالوهن، فالحرب الطويلة على مساحات واسعة من البلاد، وفي جبهات متفرقة، استنزفته بشرياً ومادياً؛ كما أنه يواجه رفضاً مجتمعياً حتى في مناطق حاضنته الشعبية، ومع توسع مساحات المقابر في تلك المناطق؛ يفقد الحوثي كل يوم قدرته على الحشد والتجنيد، ويدرك جيداً حاجته إلى استراحة يغير من خلالها تكتيكاته.
يدرك الحوثي أيضاً تبدل أولويات خصومه داخل مدينة تعز وأريافها، وخصوم الحوثي هم المجتمع أولاً، وخلفهم التشكيلات العسكرية التي تولت مهمة مقاومة نفوذه وحصاره. يأتي تبدل أولويات المجتمع من تبدل أولويات التشكيلات العسكرية التي بدأت منذ فترة بعيدة بالتنافس على النفوذ، ومن ثم المواجهات المسلحة داخل المدينة؛ قبل أن ترتئي نقل هذه المواجهة إلى جنوب المدينة وريفها، وبدأت ترتيبات هذه المواجهة التي يعني انفجارها إغلاق المنفذ الوحيد الذي تتنفس منه المدينة، وتستقبل عبره حاجياتها الأساسية، وكي لا تُتهم هذه الأطراف بالتسبب في خنق المدينة تماماً؛ فإنها وجدت في مبادرة جماعة الحوثي لفتح المنافذ التي يسيطر عليها، فرصة لإخراج نفسها من هذا المأزق.
لكن أولويات المجتمع تبدلت بفعل اليأس والإحباط من حدوث التحرير وفك الحصار، بعد سنوات من نشوء هذه التشكيلات العسكرية التي اكتفت بتحرير بضعة أحياء منها؛ ثم الانحراف عن مهمة التحرير إلى السيطرة على أحياء وأرياف المدينة، والتنافس بينها البين على إدارتها، والتربح من ذلك مادياً وشعبياً؛ والتحول إلى الجبايات الإجبارية والقمع والعبث بالأمن والقانون، بدلاً عن حمايتهما، فلم يعد المجتمع يتطلع إلى تحرير المدينة وفك الحصار عنها بالوسائل العسكرية في هذه المرحلة بالذات، إذ إن البحث عن مساحة للتنفس والحركة، بات هو الخيار العاجل والآني في انتظار حدوث تغيرات وتطورات تدفع بظهور قوى جديدة أو تنظيم ذاتي لمواجهة الجميع، بدلاً عن القوى التي امتهنت المزايدة باسم المجتمع، والتربح من ادعاء تمثيله.
يدفع الحوثيون، من خلال وسائل إعلامهم وناشطيهم، إلى مقارنات غير منطقية؛ لكنها تجد صداها لدى المجتمع الذي وصل به اليأس من الحرب والتحرير إلى الاقتناع بها، ومن هذه المقارنات ضبط الأمن في مناطق سيطرته؛ مقابل الاختلالات الأمنية التي أصبحت جدل الشارع في المناطق المحررة تحت سيطرة التشكيلات العسكرية الموالية للحكومة الشرعية. وبرغم إجحاف هذه المقارنة، وعدم مواجهتها للمنطق؛ حيث الحوثيون هم من أنتج كل هذه الموجات من العنف والفوضى، وتسببوا في انقسام المجتمع، ووقوفه أمام هذه الخيارات المعقدة، والحوثيون أنفسهم يحتكرون العنف، ويمارسون القمع والاعتقال والجباية والنهب بشكل منظم، ويخوضون كل هذه الحرب بدوافع مناطقية وطائفية؛ إلا أن هذه المقارنة تشير إلى تفضيل الناس التعامل مع سلطة واحدة واضحة النهج، بدلاً عن سلطات متعددة متداخلة تعتمد على الفوضى، وليس لديها ممارسات واضحة.
وهذا لا يعني أن المجتمع استسلم أمام كل هذه الأشكال من الفوضى؛ لكنه كان يضع آماله في المقاومة الشعبية التي تحولت إلى تشكيلات عسكرية تحت قيادة السلطة الشرعية، وحتى في مناطق سيطرة الحوثي؛ كان الناس ينتظرون وصول هذه التشكيلات كطلائع تحرير، ومع عدم حدوث هذا؛ فإن المجتمع يبحث عن وسائل لإعادة التواصل بين أجزائه المقطعة بفعل الحرب والحصار؛ ومن خلال التواصل يمكنه ابتكار وسائل المقاومة، وتنظيم نفسه لمواجهة الاستلاب؛ طالما المرحلة السابقة أنتجت تشكيلات عسكرية باسمه؛ تحولت إلى أشكال استبداد وقمع، وتسعى لصراعات جديدة بينها البين في مناطق جديدة، وتحديداً في منطقة الحجرية؛ الأمر الذي يعني فرض إغلاق جديد للمنفذ الوحيد الذي يربط تعز ومديرياتها بالعاصمة المؤقتة عدن، والمجتمع نفسه يعي جيداً ما يعنيه إغلاق هذا المنفذ، وما سيترتب عليه من تبعات كلها ستكون وبالاً على المواطنين في تعز ومديرياتها، وهذا يدفع الناس إلى التشبث بأمل أن تنفتح المنافذ مع مناطق سيطرة الحوثي، وتطبيع الحياة بين المدينة وهذه المناطق.
عندما يسقط الحلم الجماعي، أو يصيب الناس يأس من انتصار مشروعهم الجمعي؛ يتحولون إلى مواجهة مشاكلهم الخاصة، وهذا الأمر بقدر ما هو يأس وإحباط؛ إلا أنه في المقابل يتضمن إصراراً على مواصلة الحياة، وعدم الخضوع إلى الأساليب التي فرضتها الحرب و”المليشيات”، ورفضاً لادعاء تمثيله من تشكيلات كان يفترض بها أن تخلصه من الحصار، وعدم الركون إلى قوى خارجية تتنافس على استغلال مأساته لإدانة الحوثي من جهة؛ وسعيها لتمكين أذرع عسكرية موالية لها على الأرض، لفرض نفوذها على مدينته وريفها، ومن ثمّ ابتزازه بمعيشته وحرية حركته مقابل تنازله عن الحلم الجماعي، أي أن جميع القوى تحولت في ذهنية المجتمع إلى شيء واحد متماثل، مع اختلاف التفاصيل التي لم يعد يهتم بها، فكل طرف يخدم الآخر بطريقته.
غير أن الحوثيين يريدون استثمار كل هذه التفاعلات والتطورات في إطار تكتيك جديد؛ يريدون مظاهر استجداء مجتمعية لفتح المنافذ، وهذا الأمر يحقق لهم انتصاراً معنوياً أمام أنصارهم وأمام الواقعين تحت سيطرتهم، وفي الوقت نفسه إهانة المجتمع الذي أيد المقاومة، وواجه الحصار، وخلق شعور لديه بأنه ذهب للاصطفاف في الجبهة الخطأ، وبرغم أن لا شيء يشير إلى جديتهم في فك الحصار فعلاً؛ إلا أن ثمة احتمال أنهم سيعملون على فتح المنافذ بالتدريج؛ لمنح المواطنين شعوراً بالامتنان، أو سيفتحونها لأوقات وفترات محددة كساعات النهار، ويفرضون حظراً في أوقات الليل مثلاً.
على الطرف الآخر، تبدو السلطة المحلية المدنية والعسكرية، التي تمثل الحكومية الشرعية في المحافظة، وهي تتعاطى مع مبادرات الحوثيين لفتح المنافذ، وتبادر إلى فتح المنافذ من جهتها، في ظل تجاهل الحوثيين لخطاباتها؛ تبدو كأنها اعترفت بالحوثيين كأمر واقع؛ لا يمكن كسرهم وإنهاء حصارهم، وهذا الأمر أكد للناس أن هذه السلطة ليست جادة في ادعاء البطولات والتوجه لفك الحصار؛ بقدر ما استغلت وقوفهم خلفها وتأييدهم لها في هذه الحرب.
يأمل الحوثيون في أن تطبيع الأوضاع سيؤدي إلى تقوية حضورهم، وتأكيد قوتهم وسطوتهم، وسيسمح لهم بمرور الوقت بإعادة التموضع وترتيب الصفوف، والحصول على مبررات وفرص الانتصار لاحقاً، والسيطرة على المحافظة في المستقبل، وإذا ما حدثت تسوية سياسية بأي شكل؛ فإنهم لن يخسروا الكثير في محافظة تعز، طالما ومازالوا يفرضون سيطرتهم على منطقتها الصناعية، وعلى أهم المنافذ التي تربطها بباقي المحافظات المجاورة وباقي البلاد بالضرورة.

الأكثر قراءة