المشاهد نت

أدباء الألفية في اليمن .. تهميش وإقصاء

محمد جازم

محمد جازم

قاص وكاتب يمني

الكتابة عن التجييل الشعري الحديث في اليمن، لم يتم تسليط الضوء عليه كما يجب، وكل ما طرحه الدارسون إلى اليوم يعد ملامسات بعيدة، إن جاز لنا التوصيف، فمنذ محمد أنعم غالب، الذي كتب قصيدة التفعيلة باكراً، وحتى اليوم، لم تستقطب الجامعات مثلاً دراسات معمقة في هذا الشأن، وظل الأمر كما لو أنه لا يعني سوى اتحاد الأدباء والكتاب فقط، ولعل ذلك يعود إلى ندرة المراجع وقلة الإصدارات والدواوين والمصادر، إلا أن هذا لا يعد ذريعة بأي حال من الأحوال؛ فلا أحد يستطيع تجاوز التجربة اليمنية في هذا الشأن، بخاصة عند جيل الأربعينيات والخمسينيات التي مثلها محمد محمود الزبيري، وعلي أحمد باكثير -الذي سبقت ريادته للشعر المرسل بدر شاكر السياب- ومحمد أنعم غالب الذي مثل الجديد، وقدم تجربة ناضجة في ديوانه “غريب على الطريق”، وعبده عثمان، وإبراهيم صادق، ولطفي جعفر أمان، وأحمد الشامي، وغيرهم.

انكسارات تأخذ أرواح الشعراء معنوياً

وقد انسحب هذا التغييب على جيل الستينيات أيضاً، فقد كان المشهد السياسي اليمني الحربي المثير للشفقة كما هو اليوم، يتدخل، فيمتص جمال الحياة والشعر، وذلك ابتداء بحركة 1948م؛ مروراً بثورتي 62م و63م، والانقلابات المفجعة، ثم ثورة فبراير 2011م، وحرب 2014م المدمرة. وهكذا فقد كانت الانكسارات تأخذ أرواح الشعراء معنوياً وحسياً أحياناً، بقوة، وتستأثر بالاهتمام، وذلك بسبب هذه التحولات والأزمات القسرية التي حدثت، ولم يكن بوسع جيل الستينيات أن يبرز إلا لاحقاً، في السبعينيات تحديداً، وهذا الجيل الذي دشنه الشاعران عبدالعزيز المقالح وعبده عثمان، في ديوانهما المشترك “مأرب يتكلم”، عام 1971م، على الرغم من أنهما بدآ كتابة الشعر نهاية الخمسينيات.. هذا الجيل الذي استطاع الإفلات من ربقة المعاناة؛ ظهر بقوة، نظراً لانفتاحه على التيارات الشعرية العربية؛ واستفادته من حركة التواصل بين اليمن، والخارج؛ فلم تعد الخيارات ضيقة ومموهة بالغموض، وإنما ارتفع الضجيج، وتجاورت الأشكال الشعرية في ما بينها: اقتحم كتاب قصيدة النثر المشهد الشعري، ونمت قصيدة التفعيلة، وانتشرت قصائد الشعر الشعبي والعمودي الحديث: عبدالله البردوني يجاوره المقالح وعبدالله سلام ناجي والفتيح والفضول ومحمد المساح وحسن اللوزي وعبدالرحمن فخري والرازحي وعبدالودود سيف وسلطان الصريمي وعبدالفتاح إسماعيل والقرشي عبدالرحيم سلام والمحضار والربيع، وقد كان لهذا الجيل التأثير البالغ في المشهد الأدبي؛ حيث نشطت حركة التواصل، وأصبح بمقدور الكتاب متابعة حركة الترجمة التي نشطت في الوطن العربي. وأكثر ما يميز هذا الجيل، وعيه بأهمية النشر الذي أفرز بتأثير من سلطته الناعمة، مجلة “الحكمة” التي أعاد إصدارها عمر الجاوي، ومجلتي “الثقافة الجديدة”، و”اليمن الجديد”. كما اهتم هذا الجيل بالاشتغال على النص المفتوح والنص النقدي الموازي. والملفت أيضاً أنه جيل أصرّ على الاستمرار والتواجد، منتبهاً لمعني القطيعة وغياب التراكم.
وعلى الرغم من الاستقرار الذي شهده جيل الثمانينيات، إلا أنهم كانوا الأقل حظاً في خطف الأنظار، ولعل مرد ذلك إلى التنوع الإبداعي الذي انسحب على الرواية والقصة القصيرة والنص المفتوح، ولم يمنع ذلك من ظهور أسماء أثّرت على المشهد الشعري، مثل محمد حسن هيثم ومبارك سالمين وشوقي شفيق وجمال الرموش وعلي المقري الذي أصدر ديوان “نافذة للجسد”، ونبيل السروري الذي له ديوان “زرياب”، وغيرهم.

المشهد الثقافي التسعيني


ترسّخت الكتابة في المشهد الثقافي اليمني، مع دخول الألفية الجديدة، ولكن قبل ذلك كان المشهد التسعيني قد عمد إلى عملية التحول في الكتابة، بحيث أصبحت الكتابة قادرة على اختراق المجتمع ككل؛ أو لنقل إن المشهد التسعيني لفت الانتباه إلى الأدب، فعرّف به، واضطلع بمهمة الكتابة والتأصيل لها، والتذكير بأهمية الأدب في المجتمع. إضافة لذلك نجد أنهم همسوا في أذن الحياة الراكدة بأهمية تجارب الرواد، ونبهوا إلى ضرورة الالتفات إلى تاريخهم.
ويعرف الكثيرون أن المشهد الإبداعي كان قد بدأ بالخفوت مع عقد الثمانينيات؛ فجاءت الوحدة اليمنية لتعيد الأمل للكثير ممن يتطلعون إلى الخلاص. ولم يدم بصيص النور الذي انفتح كثيراً، إذ سرعان ما أطفأته حرب 1994 الظالمة، ولكن هيهات أن يستسلم هذا الجيل الذي كان أكثر انفتاحاً على العالم، فقد انبعث مثل العنقاء من تحت الرماد، وتكونت منه أصوات شعرية كان لها بالغ الأثر على الأجيال اللاحقة والسابقة، أصدر وجدي الأهدل مجموعة قصصية بعنوان “زهرة العابر”، وأصدر علوان الجيلاني ديوانه الشعري الأثير “الوردة تفتح سرتها”. وكان لهذين الإصدارين صدى واسع، حيث تحفزت الأجيال السابقة، فاستنهضت همتها، وتأثرت الأجيال اللاحقة، فدفعت بأعمالها للنشر. ومن شعراء هذا الجيل توفيق الزكري وعبدالحكيم الفقيه ومختار الضبيري وأحمد الزراعي ومحمد الشيباني ومحمد اللوزي ومحيي جرمة وأحمد السلامي وجميل حاجب وأحمد الزكري وسلطان العزعزي ومختار الدبعي، وغيرهم.

من الأمور التي أثخنت جراح كتاب الألفية، إغلاق الصحف والمجلات الثقافية، ومصادرة المنابر والمؤسسات والروافع الثقافية التي كانت تقوم على أكتافها أعمدة الحلم الثقافي، ومن ذلك تعطيل دور اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين


وجاء شعراء مطلع الألفية والربيع العربي، فرسخوا أقدام الكتابة، ووسعوا دائرة القراءة، ولكن المتابع للمشهد الثقافي أخيراً؛ وبالتحديد منذ بداية الأزمة اليمنية، سيلحظ أن هناك تراجعاً ملحوظاً على مستوى النشاط الثقافي القرائي؛ أو الإنتاجي. تراجعت الثقافة إلى حدودها الدنيا، وتعالى صوت اللاعقل تبعاً للأحداث، وهي الصورة التي لم يطمئن لها السياسي الذي ظل طوال السنوات الماضية يحبذ بقاء الثقافي تابعاً له؛ فمن المعروف أن الحياة الثقافية تتأثر سلباً وإيجاباً بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي الواقع أن الآداب والفنون ترتفع بارتفاع المؤسسات الثقافية التي تعنى بهذا الشأن، وتنخفض؛ أو تخفت بانخفاضه وخفوته، وما يبدو جلياً للعيان أن المشهد الثقافي الألفيني تأثر بالاضطراب القائم، وتراجعت إنتاجيته، بل أصبح مشلولاً تماماً؛ حيث جُيّرت كل الطاقات، والميزانيات إلى ما يسميه الانقلابيون في اليمن “المجهود الحربي”، وصارت الطاقات التي كانت من نصيب الثقافة، تصب في المحرقة التي لا يستفيد منها المجتمع، ولا تخدم الثقافة، وإنما تزيد من إقصائها واستبعادها.

أن الحرب الضروس التي كرست من أجل تهميش الثقافة والمثقفين، خلقت وضعاً جديداً أهم ما يتصف به هو الهلامية والضبابية، حيث إن الجهة التي غيبت الثقافة أرادت تغطية الجريمة، فأوكلت بالمهام الثقافية إلى أشخاص من خارج الهم الثقافي، وتقربت من أنصاف الموهوبين والمداهنين، وكان من نتاج ذلك قتل آخر أمل للألفينيين في الحضور

بدون حاضنة إبداعية


من الأمور التي أثخنت جراح كتاب الألفية، إغلاق الصحف والمجلات الثقافية، ومصادرة المنابر والمؤسسات والروافع الثقافية التي كانت تقوم على أكتافها أعمدة الحلم الثقافي، ومن ذلك تعطيل دور اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي أغلقه في صنعاء دعاة الثقافة السياسية، وهمشوا دوره الريادي ونشاطه المشهود الذي امتد خلال نصف قرن من الزمن؛ حيث إنه كان يلعب دوراً جوهرياً في تشكيل وعي الأجيال المتلاحقة، ولولا هذا الإطار النقابي العريق، لما لعبت الثقافة اليمنية دوراً مهماً في الوعي الجمعي العربي، وقد كانت بصمته واضحة على أداء السبعينيين والثمانينيين والتسعينيين، وبإغلاقه حُرم المشهد الثقافي في اليمن منبراً حيوياً، وجاء على رأس المتضررين من إغلاقه، كتاب الألفية الجديدة، الذين أفاقوا دون أن يجدوا حاضنة إبداعية تأخذ بأيديهم كما حدث مع الأجيال السابقة. ومن الواضح أن الحرب الضروس التي كرست من أجل تهميش الثقافة والمثقفين، خلقت وضعاً جديداً أهم ما يتصف به هو الهلامية والضبابية، حيث إن الجهة التي غيبت الثقافة أرادت تغطية الجريمة، فأوكلت بالمهام الثقافية إلى أشخاص من خارج الهم الثقافي، وتقربت من أنصاف الموهوبين والمداهنين، وكان من نتاج ذلك قتل آخر أمل للألفينيين في الحضور، لأنهم أفاقوا على ثقافة بديلة. والأمر والأنكأ من ذلك استحداث وجوه بديلة أيضاً، فغاب المشهد الجديد عن الفاعلية الشبابية العربية، وعن الفاعلية المحلية. أما الذين أصروا على البقاء والمجالدة في ظروف الحرب، فإنهم يتسلحون بأسنانهم لإثبات وجودهم، وهو إصرار يقوم على جلد الذات من أجل المقاومة. وما يقدمه هؤلاء يأتي على حساب حياتهم الشخصية، ووضعهم الاجتماعي.
ولعل المتابع للوضع سيلحظ هجرة الأقلام والأدباء والمثقفين إلى خارج البلد، لأن الثقافة والفن والإبداع لا يزدهر في أجواء القمع والكبت والإرهاب.. ولا تتسق العملية الجمالية مع ظروف التنكيل والتجويع والتركيع. ويمكن الإشارة إلى أن ظهور ثقافة اللون الواحد، واستيلاءها على الحياة الثقافية، فتح شهيتها في الزج بالمناوئين من المثقفين إلى السجون، وقيادة آخرين إلى أقسام الشرطة، وأصبح لا صوت يعلو فوق الصوت الواحد.

لماذا يهمشون الثقافة التنويرية إلى هذه الدرجة؟


السؤال: لماذا يهمشون الثقافة التنويرية إلى هذه الدرجة؟ ثم إلى أين يريدوننا أن نصل؟ يبدو أننا قد وصلنا إلى نقطة لم يعد فيها أحد يستطيع أن يرفع رأسه! كل ما يطبق الآن على الرؤوس هو الصمت.. هم يفترضون أنهم في مواجهة العقل المدبر الذي أخرسوه.. ألم يقل نابليون بونابرت، ذات يوم: كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي؟ ألم ينقل الإمام أحمد حميد الدين عاصمة المملكة يومها من صنعاء إلى مدينة تعز، لأنها المدينة الأكثر وعياً وثقافة، وأردف: سأذهب إلى هناك لكي أبقى كاتماً على رأس الأفعى..؟ هم يقبضون على أسلحتهم ليهاجمونا هجوم المباغت، هجوم الخائف من لغة لا يفهمها، كما تفعل الأفاعي. ولعل لسان حالهم: هذه اللغة الناعمة الشبيهة بالرخام المدهون، ستؤدي بنا إلى أن نتزحلق وننتهي.. لقد استنفدوا كل قواهم ليخفتوا صوت المثقف.. لذا تراهم في طول البلاد وعرضها يستعرضون قواهم العسكرية والقبلية.. وتجدهم يمقتون كل ما له علاقة بالمثقف، ليس ذلك فقط، وإنما كل القنوات التي تؤدي إليه.. لننظر إلى حال التعليم، وحال الطفولة، وحال المرأة! الطفولة مهتوكة ومستباحة، ويتم بيعها وشراؤها كل يوم.. الجيل الذي كان لا بد أن يكون في المدرسة، ذهب مع الحرب إلى المعسكرات، وتحولت المدارس إلى ثكنات ومنشآت عسكرية تدير عمليات حرب الكر الزائف والفر الساذج. ما الذي سنقوله للجيل الثاني والثالث من أدباء ومثقفي ما بعد الألفية الجديدة؟ هذا الجيل الذي جاء مذكراً بجيل السبعينيات، حاملاً بين جوانحه زخماً قوياً. وللتوضيح المدرسي فإنه أصبح الآن لدينا جيلان للألفية: جيل العشرية الأولى وجيل العشرية الثانية، ومنهم عبدالعزيز الزراعي وعلي هلال القحم وهشام محمد وخالدة النسيري وقيس عبدالغني وجلال الأحمدي وضياف البرق ورهان عبدالله ومنى نجيب التي قالت في نص معنون بـ”بين الشقوق ثمة حياة”:

ما أريد الوصول إليه، هو أن الشعراء قبل هذه الألفية كانوا مشغولين بالصياغات الأدبية والتجاوز وتفاصيل الحياة اليومية، ولكن تصاعد الحروب واستمرارها في بلادنا على هذا النحو، أزاح مشروعهم الثقافي العميق، وجهودهم الحثيثة، إلى المقاومة كدفاع عن النفس، واستبدلت مشروعهم بمشروع أحادي النظرة، شرعنت لبقائه تراتبية غير منطقية.


لعلي سأتفرغ لكتابة مذكرات نملة/ تكيفت ورائحة المبيدات الحشرية/ خلقت علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم/ وسعت الشق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة/ عرفت أين تجد الخبز المهمل/ والبسكويت منتهي الصلاحية/ وعلبة عصير التفاح المثقوبة؟”
نص تفوح منه رائحة سخرية من الحرب القذرة التي لا يليق بها سوى الإدانة على هذا النحو.
أراهن على أن محرقة الحرب ستستمر، وأن الجيل الجديد الذي لم يتعلم، سيتحول إلى دروع بشرية لحروب متلاحقة نتمنى زوالها. كان ثمة جيل كامل من الكتاب والمثقفين يسعون إلى تجميل الوطن بالمسارح والمعاهد الموسيقية والفنون التشكيلية.. قاعدة طويلة من المجتهدين أفنوا أرواحهم في سبيل أغاني السلام، ولكن -يا للأسف- تغير كل شيء، وتعذرت سبل الحياة الغنية بالمعارف، ليتحول الوطن إلى ساحات لمباريات دامية ينفذها معاتيه القرن الجديد؛ أو الألفية الجديدة.
إن ما أريد الوصول إليه، هو أن الشعراء قبل هذه الألفية كانوا مشغولين بالصياغات الأدبية والتجاوز وتفاصيل الحياة اليومية، ولكن تصاعد الحروب واستمرارها في بلادنا على هذا النحو، أزاح مشروعهم الثقافي العميق، وجهودهم الحثيثة، بحيث إنها جرتهم إلى المقاومة كدفاع عن النفس، واستبدلت مشروعهم بمشروع أحادي النظرة، شرعنت لبقائه تراتبية غير منطقية، وقد أدى ذلك إلى طمس هوية، وظهور شكل آخر يحمل أحكاماً بدائية نمطية، كما أعاق مشروعهم مشروع قيام الأجيال بمهمة البحث عن التعدد الثقافي داخل الهويات المتنوعة، وتنمية تلك الفسيفساء التي مثلت الحامل الرئيس لبلد عريق مثل اليمن.
وجراء هذا الصدام المتلاحق، يعاني المشهد الثقافي والفني والإبداعي، اليوم، مما يمكن أن أسميه الصدمة المباشرة، التي أدت أيضاً إلى ضمور في المخ والأعصاب، على اعتبار أن المثقفين هم العقل والخط الدفاعي الأول المعبر عن الوطن بأبهى تجلياته. ولا شك أن الحرب القائمة أعاقت بروز جيل جديد يعبر عن المستقبل والمستجد في هذا العالم الذي ظهر أمامهم مشروخاً في بنيته وتكوينه، بل عالماً مسحوقاً يحتاج إلى جهد إضافي لرفع حوامله المكسورة. ولا شك أن أمام هذا الجيل مهمة كبيرة؛ سيخلق مستقبل الأيام أدوات جديدة للمقاومة والانتصار.

الأكثر قراءة