المشاهد نت

نكبة فبراير … معالم واتجاهات

عبدالله الدهمشي

عبدالله الدهمشي

كاتب وصحافي يمني

يحسن بي ابتداءً التوقف بالحديث عند مسار تاريخي وواقع كان قائماً في الجمهورية اليمنية عام 2011م، وبما تختصره العبارت الآتية:
أنجز النضال الوطني في القرن العشرين، ثورة أسقطت الكهنوت الإمامي في الشمال، وطردت جيوش الاستعمار من الجنوب، ليواصل النضال مسيرته في الشطرين، ابتداء من تأسيس النخبة المثقفة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ويحقق الوحدة في 22 مايو 1990م، على أساس الجمهورية وديمقراطية ناشئة.
وهكذا تحددت مكاسب النضال الوطني تحت عناوين أربعة: الثورة، الجمهورية، الوحدة، الديمقراطية، وهي المكاسب التي تجذرت بالحاضنة الشعبية التي انتصرت لإرادتها ضد قوى التخلف، فتحركت هذه القوى لتعطيل حركة الثورة وإفراغ هذه الأهداف من مضمونها الفكري وواقعها المادي، حتى كانت أزمة العام 2009م، حين وصل التناقض بين ركائز نظام الفساد ذروته التي أنتجت الجمود التام والشلل المتزايد في بنية ووظائف الدولة الوطنية.
في 2011م، اندلعت انتفاضة شعبية لكسر الجمود الرسمي، وصناعة الفرصة اللازمة لتحريك الواقع باتجاه الإصلاح والتغيير المنشود لتطوير الديمقراطية الناشئة في اليمن الجمهوري الموحد، والانطلاق نحو مرحلة جديدة تعزز مكتسبات النضال الوطني، وتضيف إليها الإبداع المتاح للتطوير الكمي والكيفي في الوعي والممارسة، فما الذي حدث؟
ابتداءً، جاء شيوخ القبيلة الذبن نعرفهم بالاسم والصورة، أعداء لمكتسبات النضال الوطني، وركائز لنظام الفساد، وحرصوا دائماً على إفراغ الجمهورية من محتواها، والوحدة من مضمونها الديمقراطي، وكانت بداية النكبة حين هتف جمهور الساحات: “حيا بهم واحنا تشرفنا بهم”، وقبل منهم أن يكونوا حماة لانتفاضته السلمية.
ثم جاء مشائخ الدين، وهم الذين تمرسوا في معاداة الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، وكانوا أركان النظام الذي أفرغ المكتسبات التاريخية من مضمونها القيمي ومحتواها المادي، ليقولوا إن الحراك الاحتجاجي اختراع غير مسبوق يحتاج منهم إلى براءة وإثبات.
وتبع المشائخ والشيوخ، جنرالات الإقطاع العسكري، فأصبحوا بقدرة قادر حماة الشعب وقادة “ثورته الشبابية السلمية”، وبهم اكتمل المشهد، بحيث تحولت حركة الاحتجاج الجماهيري الساعية إلى تغيير النظام، بما يصنع الفرصة المنشودة لتعزيز المكتسبات وتمدين الدولة وتطوير الخارطة الحزبية وإصلاح آليات الانتخابات الدورية… أقول تحولت حركة الاحتجاج الجماهيري إلى نكبة كاملة ومأساة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ العالم المعاصر.
وتعززت ثلاثية المشائخ والشيوخ وجنرالات الإقطاع العسكري، بتحالف خارجي ابتدع ما تسمى “المبادرة الخليجية”، لتكون بوابة الوصاية الدولية على الإرادتين الشعبية والسياسية لليمنيين شعباً ودولة ومجالاً سياسياً، أصبح مفتوحاً لصعود المليشيات الطائفية والمناطقية.
ربما يكون هذا عرضاً مختصراً جداً جداً، لما جرى من مقدمات النكبة في 2011م، لكنه لا يخلو من صواب موثق ببعض الوقائع الشاهدة على ذلك، والمذكورة في ما مضى من قول، وهي هنا دعوة للتفكير وإعادة النظر في البدايات وما أفضت إليه من نتائج وتداعيات، خصوصاً عندما تكون هذه التداعيات بحجم المأساة اليمنية التي تعصف باليمن منذ 9 سنوات.
ولا بد من وقفة موضوعية عند بدايات التحول الذي انحرف بحركة الاحتجاج الجماهيري، واتجه بها بعيداً عن صناعة الفرصة السياسية، وبخاصة تلك البدايات التي عملت على صعود وتنامي قوة التنظيم السري المسلح للحوثيين، أولاً من خلال احتضانه في ساحات الاعتصام الجماهيري، وثانياً من خلال القبول بعملياته العسكرية التي دشنت مسيرة السطو المسلح على الدولة والمجتمع من صعدة، وبمباركة من القوى التي سبقت الحوثيين في السطو المسلح على جمهور الاحتجاج السلمي، بذريعة حماية الشعب ومواجهة بطش النظام.
ثم جاءت الفترة الانتقالية، فلم تفتح باباً لتعزيز مكتسبات النضال الوطني وتطوير الديمقراطية الناشئة في الجمهورية اليمنية، بل ذهبت بها بعيداً عن الوطنية اليمنية إلى جحيم التجاذبات الخارجية، واتجهت بها القوى التقليدية بعيداً عن الدولة والمؤسسات المدنية، فكان شيخ القبيلة أقوى من الحزب الاشتراكي في حكومة الوفاق، وكانت أوهام الخلافة تتجمع في السودان وتركيا، وخرافات الولاية تتجمع في بيروت وطهران، في رهان خاسر على صعود المليشيات الدينية بالأقطار العربية التي انفتحت على جحيم الربيع وويلاته المستمرة.
ودعونا بعد التعرف على معالم انحراف حركة الاحتجاج الجماهيري، نقف عند بعض التداعيات الكارثية التي ترتبت عليها، وذلك لأن التعرف على هذه الكوارث يمثل بداية منطقية للتحرك نحو التصويب والتوجه إلى الأمام الذي ننشده بداية لاستعادة الدولة اليمنية ومعها ما تجسده من جمهورية ووحدة وديمقراطية ناشئة.
لا يمكن الخروج من ويلات الانقلاب الحوثي على الشرعية السياسية، ما لم نتفق ابتداءً على أن مكتسبات النضال الوطني كانت متجسدة بصورة كبيرة في نظام الجمهورية اليمنية، وأن الوضع القائم في 2011م كان مفتوحاً لحراك احتجاجي جماهيري وسياسي يصنع الفرصة السياسية التي تعزز هذه المكتسبات، ولا تدمر كيانها المجتمعي والسياسي في الوطن والشعب.
وهنا يبرز الدور السلبي للوصاية الدولية التي فرضها مجلس الأمن الدولي على اليمن، في أبريل 2011م، عبر المبعوث الأممي الأول جمال بن عمر، الذي صادر الإرادة السياسية والوطنية للشعب اليمني وكيانه المستقل في دولة ومؤسسات مدنية، وعمل على تدمير مقومات الوجود الهش للدولة من خلال الإصرار على إشراك الحوثيين في سياقات الفترة الانتقالية، دون إدراك المخاطر المترتبة على الاعتراف بتنظيم سري مسلح ذي ارتباط خارجي، وتمنحه الفرصة السانحة بتفكك الدولة الهشة إمكانيات كبيرة للسطو على الدولة والمجتمع، وفرض سلطة القوة على الواقع القائم.
إن مشاركة الحوثيين في مؤتمر الحوار الوطني، بشروطهم، وليس بمقتضى السيادة القانونية للدولة اليمنية، أوصلتهم ابتداءً مع قوتهم المسلحة إلى منطقة الجراف بالعاصمة صنعاء، ليؤسسوا من هناك ما يخصهم من قوة أمنية وعسكرية، بذريعة تأمين ما أقاموه في تلك المنطقة من مجلس سياسي ومؤسسات إعلامية، وكان لهم ما يبرر ذلك من ركائز النظام التي تتمركز في الحصبة، مستقلة بتشكيلاتها العسكرية، ممثلة ببن عزيز وبيت الأحمر، وهو ما عزز تغييب الدولة لصالح العصابات المسلحة من القبيلة أو من الطائفية الصاعدة للحوثيين.
وحين عملت جماعة الإخوان، عبر ذراعها السياسية “حزب الإصلاح”، على الذهاب بالقضية اليمنية إلى محور التجاذبات الذي وضعه الحوثيون بين إيران والسعودية أو قطر وتركيا، دخلت اليمن في جحيم هذه التجاذبات التي جعلتها ساحة حروب لا تنتهي عند مستوى الحسم بين قوى الصراع الداخلي أو التسوية السياسية بينها على الأرض الوطنية فقط.
هكذا تحولت حركة الاحتجاج الجماهيري إلى نكبة مستمرة ومتواصلة في حربها ضد مكتسبات النضال الوطني في اليمن خلال القرن العشرين، والمتحققة بالثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، ولا بد من استعادة هذه العناوين لتكون راية للنضال الجديد في سبيل الخروج من نكبة فبراير وويلات الذهاب باليمن إلى جحيم الخلافة أو خرافات الولاية.

الأكثر قراءة