المشاهد نت

لا أستطيع التنفس

نجلاء العمري

نجلاء العمري

أديبة وكاتبة يمنية

لقد استغرق ذلك مني وقتاً طويلاً! كنت أمشي في شوارع نيويورك، وأنا أعتقد أني امرأة بلهاء لا تعي عظمة هذا البلد وإمكاناته الهائلة، وأنني لا أمتلك المرونة الكافية للتواؤم مع طبيعة الحياة هنا، والتي تعتبر مختلفة تماماً عنها في بلادنا (اليمن).

غير أن شكوكي حول كل ذلك كانت تتلاشى وأنا أرقب حياة الأمريكيين من كل الأجناس. لم أكن أنا الشخص الوحيد الذي كان يجلس على قارعة الطريق ذاهلاً، ويتنقل عبر محطات الحافلات مشتتاً أو شارد الذهن. كان الكثير من الناس يمضون صامتين وحائرين.. مواطنون ومهاجرون ولاجئون من كل جنس ولون. وكان الفضاء من حولي محملاً بشيء ما! وكنت أقول في نفسي لعلي أُسقط موروثي الفكري والثقافي على هذا البلد، فيمنعني ذلك من الوقوع في غرامه، وأنا من تسقط سريعاً في غرام المدن، وتتآلف معها، وتغيب في تفاصيلها التي كثيراً ما تحمل لي المفاجآت والدهشة.

“لا أستطيع التنفس”.. هنا أدركت أنني لبثت 5 سنوات تحت ركبة المدينة المتشبعة بالقسوة، وهي جاثمة على صدري، وأنا أصرخ: “لست قادرة على التنفس”

لكن هذه المدينة تحديداً (نيويورك) خيبت ظني، وكأن ملايين البشر الذين تمت إبادتهم – لتقوم عوضاً عنهم “أمريكا العظمى” – يصرخون في أذني، وتسيل دماؤهم في روحي، فلا تجعلني قادرة على الغوص في تفاصيل جمالها، والاستمتاع بإمكاناتها، حتى بدأ جورج فلويد يصرخ: “لا أستطيع التنفس”.. هنا أدركت أنني لبثت 5 سنوات تحت ركبة المدينة المتشبعة بالقسوة، وهي جاثمة على صدري، وأنا أصرخ: “لست قادرة على التنفس”.. إلا أن أحداً لم يكن يسمعني، وكان الجميع ينظر إليَّ على أني امرأة مثالية لا تدرك المكاسب التي حصلت عليها! وأنا أيضاً كنت أتماهى مع تلك الاتهامات، وأبذل مجهوداً إضافياً لأنسجم مع الحياة النيويوركية بسمتها السريعة والجامدة، وبدأت تدريجياً أفقد مهاراتي في الحياة بين الناس ومع الناس! لأتحرك كآلة تحفظ بعض الكلمات السريعة، ثم لا شيء. وهنا أدركت تماماً لماذا كان الفلاسفة يهربون من المدينة والمدنية إلى الضواحي والأرياف، وأدركت ما معنى أن تهرس روحك الآلة، وتسرقك المدينة الضخمة بناطحات سحابها وجسورها الحديدية الهائلة، دون أن تمتلك أدنى مقومات الحياة الإنسانية.. لا علاقات حقيقية، ولا مجتمع منسجم ومتناغم، ولا مشاعر عميقة تربط الناس بعضهم ببعض.

وبالرغم من النضال الطويل في مجال الحقوق والحريات التى تتباهى بها أمريكا أمام العالم، إلا أن الجرح العميق المتمثل في عهود العبودية والتمييز العنصري المستمر حتى اليوم – وإن اختلفت أشكاله ووسائله – يشوه وجهها الذي تزعم أنه أبيض، ويعري قيمها التي تتضح لنا يوماً بعد يوم، أنها لم تكن أصيلة، والتي تنكشف بين كل فترة وأخرى، كلما سنحت لها الفرصة.

إن العنصرية في هذا البلد متجذرة ببشاعة، وتمت ممارستها عبر تاريخه بأسوأ الأشكال، حتى بين البيض أنفسهم، فكان الأنجلوسكسونيون يمارسون العنصرية ضد غيرهم من المهاجرين البيض، ويضطهدونهم أسوأ اضطهاد. ويذكر أن العبيد الأوائل في أمريكا كانوا من ذوي البشرة البيضاء من الأيرلنديين، فكان السادة البيض على سبيل المثال يزاوجون الفتيات الأيرلنديات من الرجال الأفارقة، للحصول على عبيد خلاسيين يتميزون بالقوة وحسن الشكل معاً!

وكان قانون الهجرة الأمريكي لعام 1965، ينص بوضوح على أن المهاجرين من أوروبا الشمالية لهم الأفضلية على باقي العرق الأبيض!

لقد تعرًّت الشروخ في القصة الأمريكية، كما عبرت إيما بروكز، في مقالها بصحيفة “الغارديان”،  غير أن هذه الشروخ تتسع مع ضغط العنصرية الذي يكبر بوجود رئيس عنصري ومتبجح، يستهتر بشكل واضح بمشاعر الملايين من مواطنيه.. لذا يخرج الناس إلى الشوارع، ليعبروا عن غضبهم، وتتسع الاحتجاجات كحالة صحية، ومحاولة لجعل تلك الشقوق مرئية أكثر، ليتم تداركها قبل أن تعمل على انهيار بلد تشكل من ملايين المهجرين، والذين يحمل العديد منهم تاريخاً من العنصرية لا يمحى بمعالجات سطحية.

الأكثر قراءة