المشاهد نت

هيمنة الحضارة باستدعاء جذور المشكلة

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمني

بعض الأحداث تعلن عن نفسها كصيغة تعريف لزمن ما أو لمآلات عصور وانقلاب التاريخ. هل ذلك ما تثيره حادثة مقتل مواطن أمريكي من جذور أفريقية، على يد شرطي أبيض، في مركز حضارة العالم؟ ليس هناك تفسير آخر بأن مقتل المواطن جورج فلويد، على صلة ببشرته السوداء، أو ما يمكن اعتباره استعادة لجذور العبودية التي أسست لهيمنة البيض.
بعد أسبوعين، تقر جماعة الحوثي تعديلاً في قانون الزكاة، يمنح الخُمس لمصلحة فئة اجتماعية معينة، تحاول استعادة جذور هيمنتها في اليمن أو ما يمكن تصنيفها في الهامش.
ما الذي يجعل واقعتين تحدثان في بلدين مختلفين من حيث ظروفهما، ويلتقيان في كثير من السمات؟ فمن ناحية لا يمكن أن يكون لحدث في اليمن أثر كبير على العالم، لكن التحولات في المناطق الهامشية يمكن أن تصبح نوعاً من التمهيد لتحولات في المركز. فحدوث وقائع في نطاق زمني معين، لا يعني بالضرورة قراءة النسق الذي يبدو عليه العصر، إنما في كونه يشكل تياراً رمزياً لتحول عام.
وعلينا التفريق بين مصادفات تصنع بعض الوقائع المتجانسة، وبين ما يمكن أن تصبح علامات لطبائع عصر وأخلاقه. ما حدث في بلد أسهم في حضارتنا من صناعة الطائرة وسفن الفضاء إلى الرقائق الذكية، وبلد مازال يعيش في أزمنة قروسطية في كثير من مفاهيمه، لا يمنع بناء مفهوم متجانس للعالم تحدد بعض الصلات المشتركة بين عالم قروسطي وآخر متحضر. عدا أن الأخير لم يحد من ظهور رئيس للولايات المتحدة كأكثر زعماء أمريكا هزلية.
على خلاف ما يبدو طافياً على سطح التاريخ، لا يمكن التنبؤ بالتاريخ، لأن كثيراً من تقلباته تحدث بصورة مفاجئة، بينما تتضح مسارات عامة كتوطئة لعاصفة. فعند ظهور حركة الحوثي في صعدة، لم يتصور أحد أنه خلال 10 سنوات ستسيطر الحركة على العاصمة صنعاء، وإن كان ظهورها انعكاساً لاضمحلال الدولة، لكن الظروف تهيأت لها مع ثورات “الربيع العربي”، لتكون بديلاً لفشل عام، وإن فرض نفسه بصوت المدفع.
على أن التاريخ يخلق منطقه الخاص، فالذين كانوا يراهنون على انتشار التعليم بصورة تقتضي عدم قابلية ظهور جماعة وصموها بالقادمة من الكهوف، للسيطرة على اليمن، يتناسون قاعدة قالها توينبي حول حدود الحضارة والبربرية التي تصبح مع الوقت لمصلحة البربرية. فصعود الراديكالية الدينية كان الملمح الشرق أوسطي أو العربي، لتراجع العالم، وانحسار تطلعه نحو المستقبل، إذ إن التصور لنهاية العالم بانتصار الرأسمالية، دفع العالم المتقدم لصيغ أركيولوجية تنقب في الماضي، وهو ما انعكس في المظهر الكلي، وهو ما انحسرت عليه ملامح الفنون. لكن شنبلغر كان لديه نبوءة حول تدهور الحضارة الغربية بهيمنة المدن، إنما في بلوغ تلك الحضارة ذروتها في الفنون مع موزارت وبيتهوفن، ثم شهدت تراجعاً واضحاً منذ القرن التاسع عشر.
سنعود إلى سؤالنا الرئيسي فهل مقتل مواطن أمريكي أسود، على يد شرطي أبيض، مجرد استثناء، أو أنه حلقة وصل عميقة مع جذور الإشكالية التاريخية القائمة على تمييز عنصري أساسه اللون. تلك الإشكالية التي أنهت فصولها المشرعة في القانون، بإقرار قانون الحقوق المدنية عام 1964، الذي يعطي السود حقوق المواطنة المتساوية مع البيض، ثم قانون الانتخابات العامة عام 1965، الذي منح السود حقوقاً متساوية في التصويت مع البيض.
من حيث المبدأ يستعير قانون الخُمس الذي أعلنته جماعة الحوثي، كتعديل لقانون الزكاة، جذور المشكلة السياسية في التاريخ اليمني، القائم على تمايز يستمد تشريعه من الدين، وهو الوجه الذي أنهت فصوله ثورة 26 سبتمبر 1962، وإن استدعى في صنعاء اتخاذ شكل يتم تشريعه في القوانين، كان في أمريكا مخاتلة خارج القانون تبرر حدوث القتل من العدالة التي تمثلها الشرطة في ملاحقة الجريمة. لكنه يؤسس للصورة النمطية عن انتشار الجريمة بين أصحاب البشرة السوداء.
أما ما يجعل الواقعتين أكثر تجانساً، فهو حضور ستينيات القرن العشرين كمحاولة للتصالح مع وصمة ما أو مشكلة تفجر أساساً للتمييز على أساس طبقي تحدده الهوية. اتخذ العالم مساراً تحررياً في الستينيات، ومع انحسار المد اصطبغ بصحوة الماضي الذي تأجج مع انتصار الرأسمالية وفلسفة نهاية العالم. لكنه في العالم الإسلامي اتخذ راديكالية أصولية بمرجعية قروسطية.
وبالعودة لتنبؤ الفرنسي أندريه مالرو، حول القرن الحادي والعشرين كقرن للصراعات الدينية الأكثر عنفاً، هل بنى نبوءته نتيجة اقترابه من مركز القرار في واحد من مراكز التأثير السياسي الغربي، أي فرنسا؟ عاد الخميني من باريس كسيد لثورة منبعها القرون الوسطى، عام 1979، وما بدا استثناء أصبح مظهراً لنهاية العالم وسقوط المستقبل. وأية نهاية تصبح فراغاً بانتظار من يملأها، كانت خرقاً مريعاً لوجه الستينيات وتطلعه للمستقبل. وما بدا استثناء في القرن العشرين، أصبح مداً شرقاً أوسطياً لانبعاث الأصوليات في الهامش. لكن المركز الحضاري يواجه قلق تدهوره باستعادة جذور ثقافته البربرية، لكن بتكييفها وفق نموذج أخلاقي، ومع الوقت تتماهى مع إشكالية العرق وإشكالية الدين.
هل هي البربرية التي أثارها مقتل المواطن الأمريكي الأسود، على يد شرطي أبيض؟ لم تكن الحادثة استثناء في قاعدة النموذج الأمريكي الأكثر مثالية، شهدت أمريكا فصولاً من العنف والاضطهاد للسود لا تشرعها القوانين. غير أن خطاب ترامب كان الأكثر إحباطاً، الأكثر تعنتاً من مقتل المواطن، إذ مثل الخرق الأكبر في تحديه لصوت العدالة.
على صعيد آخر، كانت اليمن مثقلة بصيغة تمايز بررتها طوال عقود هيمنة المركز القبلي، تمايز تحدده الأحكام العُرفية التي تتجاوز التشريعات القانونية، والأخيرة لا تمنح تمايزاً. لكن البحث في جذور مشكلة العالم، تم التمهيد له في مركز الحضارة، بتصور الهيمنة على الهامش. أي العالم الذي كان فضاء لهيمنته التاريخية، وهو ما صاغته تنظيرات هنتنجتون حول “صدام الحضارات”، أي الواقعية الامبريالية، التي تؤيدها دوائر سياسية. غير أن ذلك التصور تماهى مع التوجه العام لسياسات الدول الكبرى. فماهية العالم كانت استدعاء الجذور، وكان على تركيا أن تعود لحاضنتها الإسلامية، ومثله صعود أردوغان.
تم تقسيم العالم وفق تلك التصورات، لعل الامبريالية كانت مُثقلة بسخطها من انحسار هيمنتها المباشرة والعسكرية على حضارات اعتقدت أنها امتلكت مصيرها. إنه التصور القديم، الجذور القديمة، كان أيضاً خللاً في المسرح العلماني، إقامة دولة دينية في قلب الشرق الأوسط، وتبريره أخلاقياً بتصور ديني باعتباره الوطن الموعود، في الوقت الذي تم تقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني. كان أيضاً البذرة لإدامة الصراع الديني، ومربط الفرس لعودة هيمنتها. عودة جذور المشكلة العرقية أو الدينية، يشكل تبريراً لهذا التصور الصدامي، فالصدام الحضاري لا يقف عند تقسيم ديني، إنما في تصورات عرقية، لأن الفضاء الأفريقي حدده هنتنجتون بمزيج مسيحي وثني، كان يجب عليه أن يكون أفريقياً. لكن هيمنة الغرب لا يتوجب أن يلطخ الغرب، فكان الشرق أرثوذكسياً، بينما تحالف البروتستانتية مع الكاثوليكية، نظر لليهودية كجذر مسيحي، لكنه مغالطة لجذور الصراع، إنما تلفيق أو محاولة توفيق باعتبار أن وجوده جزء من هيمنته على عالم أو حضارة أو ثقافة. يبدو أن العالم يستعيد جذور بربريته الأكثر قسوة.

الأكثر قراءة