المشاهد نت

ومن يطفئ النيران؟

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

في الشهور الأخيرة زاد التباس المشهد اليمني. وبعد الجمود الطويل على الجبهات العسكرية، تمدد الحوثيون شرقاً وشمالاً، حتى طووا الجوف في أيديهم. ثم بينت الأحداث الأخيرة في الضالع، أن المحافظة قد طارت من يد الحكومة منذ أمد طويل. وبهذا ظهر أن الحوثيين ضربوا على مأرب، المتنفس الوحيد الباقي للحكومة، طوقاً من فولاذ. وفي الضالع يعيد الكر والفر تقسيم المحافظة إلى مديرية قديمة اسمها الضالع تتبع محافظة لحج، وإلى مديريتين في دمت وقعطبة من نواحي محافظة إب.
والأوضاع في تهامة، برغم المناوشات، باقية مثلما كانت.
هكذا هي نصف الصورة. يسيطر الحوثيون على النطاق الجغرافي لما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية، باستثناء الخاتم الصغير في مأرب، والخيط الممتد من جنوب الحديدة حتى باب المندب. غير أنه على هذا الخيط الرفيع لا تسمع الحكومة تغريد الطيور، ولا ترى موج البحر يرتد عند الشاطئ.

ليس معنى هذا أن المجلس الانتقالي يملك القدرة على أن يمسك الجنوب من أطرافه. إنه يمتلك القوة بالتأكيد، لكنها وحدها لا تكفي، لأن أكثر الجنوبيين يرفضون الانفصال .


هنا عند الشاطئ ليلى ثانية وغناء متلف ورقص على دقات طبول مسموعة من بعيد.
النصف الآخر للصورة أن الحكومة ولت من عدن، وركبت البحر، وأنهم في العاصمة المؤقتة أعطوها تأشيرة خروج بلا عودة، فإذا ما استدارت وحاولت اصطدمت بالأسوار عالية، وبالشرطة ساهرة. وقد تدخل المدينة حكومة ثانية تحمل علم الشرعية، ولكن حتى حين.
ليس معنى هذا أن المجلس الانتقالي يملك القدرة على أن يمسك الجنوب من أطرافه. إنه يمتلك القوة بالتأكيد، لكنها وحدها لا تكفي، لأن أكثر الجنوبيين يرفضون الانفصال، على الأقل هم لا يريدونه تحت قيادة هذا المجلس، ووفق توجهاته ورؤاه. إن فيهم من يدرك أن ما جرى في الجنوب منذ مايو 1990، وخصوصاً بعد يوليو 1994، لا تتحمل الوحدة مسؤوليته، وإنما يقع الحمل على النظام السياسي الذي أجحف في حق الشمال والجنوب، دون تمييز. وأكثرهم يعرف أن بعض ما وقع على الجنوب وأهله صدر عن جنوبيين، بما يؤيد القول بأنه النظام، وليس الوحدة.
وفي الجنوب من يلقي اللوم على الوحدة، ومع هذا فهو لا يندفع نحو قبول الانفصال عندما يسترجع صوراً من الماضي العنيف خلال الفترة من نوفمبر 1967 إلى مايو 1990. ولا يتعلق الأمر هنا بالخيار الاجتماعي الذي ساد في دولة الرعاية، وإنما بالصراعات المدفوعة بالمنافسة المناطقية والحساسيات الشخصية التي ألبست ثوباً عقائدياً فاقعاً.
مقابل هؤلاء لا يمانع غلاة الوحدويين في الشمال من الانفصال بسلاسة ويسر، وإذا ما ضمن تأمين وحدة واستقرار وسلامة الجنوب، فذاك في رأيهم أفضل في الحفاظ على وحدة الضمير والمصير من التهور وراء شعار “الوحدة أو الموت”، ذلك الشعار الذي استعير مما خطه بدمائهم المدافعون عن ثورة 26 سبتمبر إبان الحصار الشهير.
الجميع في واقع الحال تتملكه الريبة من أن يبقى الجنوب موحداً، فهناك وراء المشهد الظاهر أشياء تعتمل دون أن نراها رأي العين، رغم قوة تأثيرها في تحديد ما ستؤول إليه أوضاع البلاد فور انتهاء الحرب، وإن كان من طبائع الأشياء أن آخر طلقة لا تثبت الأوضاع على ما استقرت عليه في تلك اللحظة. إن كل حرب تؤسس لتسويات واتفاقيات، وقد تفرض حدوداً جديدة بين الدول، أو تخلق دويلات من أحشاء الدول القديمة، وأحياناً من لحومها. وعلى سبيل المثال، فإن الحرب العالمية الثانية وضعت بذرتها عقب الحرب العالمية الأولى مباشرةً، بمعاهدة فرساي.
وفي بعض الحروب يجري الترتيب لما بعدها قبل أن تضع أوزارها، ففي الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تتحدد نتائجها بوضوح، اقتسمت بريطانيا وفرنسا إرث الامبراطورية العثمانية في العالم العربي، باتفاقية سايكس بيكو، وصدر عن وزير الخارجية البريطانية اللورد آرثر بلفور، وعده الشهير بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين.
وفي حساب المستقبل كان المنتصرون أحياناً يعيدون بناء وترتيب أوضاع الدول التي هزموها، كما فعلت الولايات المتحدة، ومن خلفها أوروبا الرأسمالية، في إعادة تأهيل اليابان، بدلاً من تدميرها، عقب الحرب العالمية الثانية، في إطار الترتيب للصراع القادم مع الاتحاد السوفيتي. وكذلك فعلوا من أجل هذا الغرض مع الفاشي فرانكو دكتاتور إسبانيا العتيد.

الذي يرتب لمستقبل اليمن لم ينتصر في الحرب، وما حدث بعد أكثر من 5 سنوات من القتال، أن التحالف لم يفعل أكثر من إبعاد قوات الحوثي عن الجنوب، ثم فشل في إنجاز الهدف الذي شن الحرب من أجله، وهو إعادة الحكومة “الشرعية” إلى صنعاء.


الغريب أن الذي يرتب لمستقبل اليمن لم ينتصر في الحرب، وما حدث بعد أكثر من 5 سنوات من القتال، أن التحالف لم يفعل أكثر من إبعاد قوات الحوثي عن الجنوب، ثم فشل في إنجاز الهدف الذي شن الحرب من أجله، وهو إعادة الحكومة “الشرعية” إلى صنعاء.
لكننا قد نسلم بأنه حقق انتصاراً سياسياً إذا كان الهدف المضمر تمزيق اليمن. وأما الحوثي فقد حقق انتصاراً عسكرياً على المملكة العربية السعودية حين نقل الحرب إلى أراضيها. ولسوف ينعكس ذلك في انتصار سياسي عندما يجلس مع السعوديين على طاولة المفاوضات تحت أضواء الكاميرا.
لكن الانتصار في الخارج تجلى عن هزيمة في الداخل، هزيمة أخلاقية على الأقل. ويمكن القول إنه حقق غلبة، دون أن يدرك النصر، وبين الاثنين فرق شاسع. وهو في هذا أسرف في القسوة إلى درجة القتل تحت وطأة الجوع والأوبئة، دون أن يدرك أن التطرف في القسوة لا بد أن يخلق تطرفاً في المقاومة، ولو طال الأجل.
والواضح مما يجري الآن أن دحر الحوثي من الشمال لم يعد في حساب دول التحالف والحكومة، وأن تبادل القصف الجوي يأتي في نطاق التسخين لمفاوضات مباشرة ترتب لعلاقات طبيعية قد تفرض التزامات على السعودية مقابل تأمين حدودها الجنوبية. ومع هذا فمن المرجح أن الحوثيين لن يتركوها تهنأ بالأمن، وأن المشروع الإيراني الذي خرج منتصراً في هذه الجولة، سيزداد شراهة وغلظة في التعامل مع جاره الضعيف.
يلاحظ أيضاً أن المبعوث الأممي بات يراقب من بعيد، ويتسلى، وقد أُسقط من تغريداته وإحاطاته لمجلس الأمن، الكلام القديم عن قرارات المجلس، وعن اتفاق ستوكهولم، وأخذ يتحدث كمخلص جمركي مشغول بالبضائع الواردة إلى موانئ الحديدة.
وخلافاً لما يجري تحت الطاولة بين الحوثيين والمملكة، أو ما يُرى ويسمع فوق الأجواء، فإن التحالف يبدو منشغلاً بالترتيبات في الجنوب منذ بدأت المعارك قبل نحو سنة، وحتى الاجتماعات الاخيرة بالرياض.
وما يحدث في الجنوب، رغم شراسته أحياناً، لايزال شرارة قد تتطور إلى حريق إذا ذهبت إلى سلخ الجنب كما تشير الدلائل. غير أنه في هذه الحالة سوف يمتد ليلتهم المملكة بعد النظام السعودي.
إن هذا الحديث يغفل عن حساب دور الشعب اليمني، وهو في الواقع وليس غيره المعني لكسر القضبان من حوله، وإطفاء النيران فوق أرضه.
لكن كيف؟
تصعب الإجابة.

الأكثر قراءة