المشاهد نت

وطن موحل ونساء مشققات القلوب

نجلاء العمري

نجلاء العمري

كاتبة صحافية يمنية


عندما توفيت عمتي فاطمة، قلت انتهى الخير من هذا العالم، إذ كانت امرأة من أكثر النساء طيبة وحباً وجمالاً، وكنت أتخيلها دائماً وهي جالسة في منزلها القابع في أعلى قمة في القرية، فتبدو لي كأنها إلهة إغريقية تعانق السحاب وتراقص الأنهار وتداعب الجداول الصغيرة بأصابعها التي اكتشفت في ما بعد أنها كانت غليظة ومتشققة!لقد أصابتها لعنة آدم، فسقطت من قمة الجبل إلى الوديان السحيقة، للعمل في الحقل وجلب الماء والاعتناء بالحيوانات والأطفال وتأمين الغذاء طوال العام. وكما تشققت أصابع فاطمة وقدماها، تشقق كذلك وجهها وقلبها!فكلما كانت تكبر فاطمة، كان كل شيء من حولها يصغر ويتقلص! فصغر البيت الذي لم يعد يتسع للصغار الذين يكبرون ويغادرون إلى

لم تعد الأنهار تركض من تحت قدميها، وفقدت فاطمة سماءها وأرضها، فما عادت تلك الإلهة الإغريقية الحالمة، ولا ظلت تلك البشرية الملتصقة بالأرض والكد والتعب! لقد سُرِقت فاطمة كلياً، وذهب الجميع محملاً بأجزائها، فيما هي ظلت حبيسة الإسمنت والذكريات.

عوالمهم الخاصة، وتقلصت قلوب الرجال، فما عادت تتسع للمرأة التي غرست أقدامها في التربة، فاستطال جذعها، وأثمرت فروعها.. فكان الصغار يتسلقون جذعها لالتقاط الفاكهة، وكان زوجها يستند إليه ويتظلل من حر الشمس، وغالباً ما كان يقف على أعلى فرع في تلك الشجرة الوارفة، ليطير بعيداً نحو تلك البلاد التي لم تعرف فاطمة عنها شيئاً، سوى اسمها – الذي كانت تنطقه بهذه الطريقة “مريكن”، كعادة نساء القرية في مناطق إب – وبعض الكريمات والمنتجات والملابس التي كانوا يرسلونها إليها بين كل حين وآخر.

غير أن تلك الكريمات لم تداوِ أصابع فاطمة وقدميها، فقد ظلت الشقوق عميقة والجراح غائرة.. وإن نفعت تلك الكريمات أطراف فاطمة، فهل تنفع وتداوي قلبها؟!من يضم قلبك يا فاطمة وأنت ترقدين في الحجرة الإسمنتية -فقد أعاد الرجال بناء المنزل الترابي، وغمروه بالإسمنت، فازداد صلابة، وازدادت قلوبهم قساوة وجسارة- والتي غابت عنها تلك السحابات البيضاء نهاراً، والقرمزية، محملة بجروح صغيرة مفتوحة عند المغيب.لم تعد الأنهار تركض من تحت قدميها، وفقدت فاطمة سماءها وأرضها، فما عادت تلك الإلهة الإغريقية الحالمة، ولا ظلت تلك البشرية الملتصقة بالأرض والكد والتعب! لقد سُرِقت فاطمة كلياً، وذهب الجميع محملاً بأجزائها، فيما هي ظلت حبيسة الإسمنت والذكريات.يا فاطمة، يا جميلتي، يا سيدة النساء.. لا بلد أجمل من حضنك، ولا منزل أكثر ترفاً ورفاهية من شقوق قدميك.. لكن قلوب الرجال، يا حبيبتي، ما عادت حية.

كم امرأة مثل فاطمة، وكم أم مثل فاطمة، وكم غربة ستظل تبتلع الصغار والكبار والذكريات الفارهة والأوطان الخاوية إلا من نساء متشققات القلوب يقضين أيامهن في انتظار الرجال الذين ابتلعهم البحر وسرقتهم الأموال والدولارات

لقد قتلتها الغربة والناطحات بجسورها المترامية، فتركوا جسورك الممتدة نحو النعيم، وغابوا في التيه.كم امرأة مثل فاطمة، وكم أم مثل فاطمة، وكم غربة ستظل تبتلع الصغار والكبار والذكريات الفارهة والأوطان الخاوية إلا من نساء متشققات القلوب يقضين أيامهن في انتظار الرجال الذين ابتلعهم البحر وسرقتهم الأموال والدولارات التي لا ترمم قلباً، ولا تعيد وطناً للروح الضائعة المستلبة.

وكم وطناً نملك كي نضيع خضرة قلبه، ونتركه مشقق القلب والروح، فلا أقلتنا أرضه ولا أظلتنا سماؤه، وكان هو الأم التي وقفنا على فروعها الممتدة، وانطلقنا بعيداً نحو غيب لا يحمل قلبها، وجذور ليس لها تربة لتضرب فيها.وفيما كانت “أمي اليمن”، من أجمل أغاني الفنان الجميل أبو بكر سالم، رحمة الله عليه، إلا أنه غناها لها من مكان بعيد، كعهد الصغار الذين ألفوا التشرد والاغتراب، ولم تعد تربطهم بأحبائهم سوى أسلاك الهاتف والذبذبات التي لا تحمل شوقاً ولا لهفة ولا قدرة على التفاني من أجل الأم الموحلة الوجه.. المتسخة الثياب.

وبدلاً من الافتخار بها، صرنا نشعر بالخزي والعار من الانتساب إليها، وتحول حلم العودة إلى كابوس يقض مضاجع الكثيرين.فيما هي لايزال سراجها مضاءً.. وبابها موارباً…ولاتزال ترقد قرب النافذة، عله يترامى إلى سمعها وقع خطانا المنهكة..- افتحي لنا الباب يا أمنا..- الباب مفتوح لم يغلق مطلقاً.. تغمغم وهي ترقد بسلام.

الأكثر قراءة