المشاهد نت

الدور الإماراتي في شرق أوسط جديد

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمني

في مشهد الخراب الذي تشهده المنطقة العربية تصاعد دور الدول الصغيرة، وبما فيه من سمة مصطنعة يصبح تمهيداً لواقع جديد. ومع إقدام دولة الإمارات على تطبيع علاقتها مع إسرائيل، نستعيد دورها المتصاعد في العالم العربي خلال آخر 5 سنوات. وبالتأكيد لا يمكن استبعاد العلاقة بين الأمرين، فلا موقعها المحوري ولا حجمها يساعدانها على ذلك، وإن خولها فائض المال.
لكن، هل نتعامل مع التاريخ كتطبيق يمكن أن تتحكم فيه مختبرات السياسة؟ يمكن لذلك الحدوث، لكن بالعودة إلى فلسفة الأسكتلندي ديفيد هيوم، فإن لا علاقة بين السبب والمُسبب، ومن ناحية أخرى يفرض التاريخ كل إرادة تتماشى مع مشيئته. وهذه المشيئة هي الجانب غير الممكن التحكم به.

يتيح الثراء والفائض المالي للإمارات لعب هذا الدور، لكن جوانب أخرى لا يضاهيها المال تفتقدها تلك المشيخات الصغيرة، وهي قيم أخرى لا تساوي المال. لكن هذا الدور يترتب عليه صياغة جديدة، فلا بأس أن تعطي الدول الكبرى مثل تلك الأدوار. وما تقوم به الإمارات، الاستعانة بوكلاء محليين في اليمن وليبيا


فالمسار التاريخي يسير في تراكمات متعارضة، ويدب التفسخ بصورة مباغتة، عدا أن أحداثاً تساعد في عملية تسارع التدهور والتوجه الإماراتي يغذيه طموح حكامها من ناحية، ثم الإحساس الدائم بالمخاطر كدولة صغيرة ومُهددة من دول كبيرة تجاورها.
بالطبع، يتيح الثراء والفائض المالي للإمارات لعب هذا الدور، لكن جوانب أخرى لا يضاهيها المال تفتقدها تلك المشيخات الصغيرة، وهي قيم أخرى لا تساوي المال. لكن هذا الدور يترتب عليه صياغة جديدة، فلا بأس أن تعطي الدول الكبرى مثل تلك الأدوار. وما تقوم به الإمارات، الاستعانة بوكلاء محليين في اليمن وليبيا، ولا يعني أنها الوحيدة التي تقوم بذلك. لكن تدخلات أبوظبي، يمكن تلاشيها بمجرد نزع الغطاء الدولي. على خلاف دولة كبيرة في المنطقة مثل إيران، فإن نزوع جذور تدخلاتها ليس بالأمر الهين.
على أن التدخل الإماراتي تمت مباركته بوصف الإمارات “إسبرطة الجديدة”، وهو الذي أطلقه عام 2015 وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس. ولا نعرف إن كانت الإمارات بما حققته من فائض مالي، شعرت بإمكانية ذلك. وبالعودة إلى الظروف التاريخية فإن السياقات التي مهدت له، تعود لنهاية الحرب الباردة. وهذا ما تمخض عنه مفهوم “نهاية التاريخ” بحسب تعبير فوكوياما، وبموجبه فإن انتصار الرأسمالية هو نهاية العالم.
أتاح الوضع العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، مساحة كبيرة للاستقلال في العالم، لكن خروج الدول المستعمرة هيأ لقيام إسرائيل في المنطقة. ولم تبح المنطقة بكل حدودها، إنما تمت صياغتها وتكييفها في ملامح تحفظ مصالح العالم بمصادر الطاقة. انقسام في المنطقة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وبالنسبة للعالم فإن الحدود تلك يمكن تحريكها، وفي لحظة تمت حماية الحدود، ومع تفرد الولايات المتحدة يمكن تحريكها بطريقة تلائم مصالحها. فتدخل صدام حسين في الكويت تمت معاقبته، وقبلها تم جره إلى الفخ، للحفاظ على الخريطة التي تحظى باعتراف عالمي. ومنذ ذلك الوقت أصبحت رقعة الشطرنج في المنطقة، قابلة للانحلال.
فالاحتلال الأمريكي للعراق، كان المهماز لوضع المنطقة في سياقها الجديد، لعلنا نتذكر مقولة كونداليزا رايس عن “شرق أوسط جديد”. لكن التسعينيات كانت مُركب التحولات، وهي التمهيد للألفية. حرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفيتي. كما أن بريطانيا خسرت إدارتها لهونج كونج، لا نستطيع الجزم بأن التهيئة لدبي كميناء عالمي، في غرب آسيا، كانت إعادة تموضع للمصالح الغربية بعد الخروج النهائي من هونج كونج.
لكن الدور الإماراتي انتظر حضوره عدة سنوات، واستمرت أهميتها كبلد صغير في حضورها الناعم الذي مثلته ثروتها عبر دعم بعض مشاريع التنمية في بلدان المنطقة الفقيرة. ولا ننسى أن ذلك مرتبط بطموح حكامها، مثل جارتها الأصغر قطر. والأخيرة دشنت دورها بصورة تدريجية منذ عام 96، والنصف الثاني من التسعينيات كان مشهداً للتحولات، فدشنته قطر بتأثير إعلامي هائل مثلته قناة “الجزيرة”. ولا ننسى أن البلدان الصغيرة ذات الفائض المالي، مثل قطر، عبرت عن إحساسها بالخطر في بناء تحالفات سياسية مع تيار الإسلام السياسي، وبالتالي تبني سياسة طموحة، وما أفضى إليه من تأثيرات على بلدان أكبر منها. فالمنطقة الواقعة تحت براميل بارود، تثير قلقاً دائماً لتلك الدول الصغيرة، والتي حطم صدام احتمالية بقائها في احتلاله الكويت لولا التدخل الدولي.

اقتفت الإمارات أسلوب خصمها، ولكنها تجاوزتها بخطوات في تبنيها مشروع التطبيع في المنطقة. عدا أن تدخلاتها العسكرية في اليمن وليبيا.


اقتفت الإمارات أسلوب خصمها، ولكنها تجاوزتها بخطوات في تبنيها مشروع التطبيع في المنطقة. عدا أن تدخلاتها العسكرية في اليمن وليبيا عبر دعم فصائل بالسلاح، وبناء قواعد عسكرية في البحر الأحمر وبحر العرب، في إريتريا وأرض الصومال، لا يمكن أن يعطينا “إسبرطة جديدة” بالمعنى التام، لأن لعبة التوسع ليس من الممكن مباركتها دون قوى دولية، فالامبراطوريات ذات فضاء قاري. وهذا يمنحنا صورة لما يمكن أن تقوم به أبوظبي في المنطقة.

وعلى خلاف ما حدث في العراق، شهدت المنطقة تدخلات ناعمة، لكنها تمضي في خلخلة المنظومة السياسية. وفي الصراع الليبي يمكن تبني شكل طوبوغرافي لواقع جديد، ربما تحدده سرت كمنطقة تماس بين شكلين مدعومين من الخارج. وهذا ما يمكن حدوثه في اليمن، لكن ما هي الأطراف المستعدة للانسياق في مسار السلام؟
بعد إعلان الإمارات تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، أبدت واشنطن موافقتها على طلب إماراتي من أجل صفقة طائرات F 35. لكنها أيضاً تباشر في إعطاء هذا البلد الصغير مضموناً إسبرطياً مُلفقاً. غير أن أبوظبي تمارس دورها كقائدة للتطبيع في المنطقة، وربما بتوافق مع أطراف سياسية في المنطقة أكبر، مثل السعودية. فالاتفاق مع إسرائيل لم يضمن أي مكاسب للدولة الفلسطينية، وهذا يعيدنا لتفسير مضمون صفقة القرن.
تقدم أبوظبي حلفاءها كأصدقاء لتل أبيب، وتفتح قنوات، وهذا يعطي حكومة نتنياهو المتشددة إزاء الفلسطينيين، علامات انتصار سياسية. ففي طريقه إلى أوغندا فبراير الفائت أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن أفريقيا ستعود إلى حضن إسرائيل. وفي العاصمة الأوغندية التقى برئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان، والأخير تحدث عن استعداده للدخول في التطبيع مع تل أبيب. وهناك إغراء تقدمه إسرائيل ليس للإمارات فقط، وإنما للآخرين، فهي ستقدم الخرطوم إلى العالم، وستنزع عنها فتيل العقوبات الأممية كراعية للإرهاب، المتبقية من عهد البشير.

في اليمن، دفعت الإمارات حلفاءها للسيطرة على عدن، ومؤخراً جزيرة سقطرى. وهناك معلومات عن قيام الإمارات بإنشاءات مدنية في الجزيرة اليمنية. وتحدثت مصادر عن إمكانية استقبال أفواج سياحية أوروبية، فزيارة سقطرى أصبحت شأناً إماراتياً، لا يمكن لمواطن يمني زيارتها دون موافقتها.


ولم يخفِ حلفاء الإمارات في اليمن، عبر قيادات في المجلس الانتقالي الساعي للانفصال وناشطيه، استعدادهم للتطبيع. لكن صحيفة إسرائيلية سبق وأشارت إلى وجود صديق لإسرائيل في اليمن، أي المجلس الانتقالي. وهذا بحد ذاته يعني أن أصدقاء الإمارات هم بالضرورة أصدقاء لإسرائيل.
وعلى صعيد آخر، تمارس واشنطن ضغطاً على البلدان من أجل الدخول في عملية التطبيع. مثلاً تهديد دول المنطقة بسحب القواعد العسكرية ما لم يكن هناك تطبيع. وهذا يطرح علينا أهمية وجود الفزاعات في المنطقة، إيران على سبيل المثل. لكن ما الذي يجري إذن؟
في اليمن، دفعت الإمارات حلفاءها للسيطرة على عدن، ومؤخراً جزيرة سقطرى. وهناك معلومات عن قيام الإمارات بإنشاءات مدنية في الجزيرة اليمنية. وتحدثت مصادر عن إمكانية استقبال أفواج سياحية أوروبية، فزيارة سقطرى أصبحت شأناً إماراتياً، لا يمكن لمواطن يمني زيارتها دون موافقتها. كما أنه سيتم ربط الجزيرة بالاتصالات الإماراتية، ويمكن أن يتم فرض التعامل بالدرهم الإماراتي. لكن ما دوافع ذلك؟
بصورة ما، تمت إباحة تلك الدول للدول والشركات من أجل استثمارات غير مقيدة بقوانين محلية، أو هذا ما تتم التهيئة له. فالفصائل المسلحة الإرهابية كالقاعدة وداعش والفصائل الإسلامية الأخرى، تمنح هذا الحق بالتدخل العسكري، ثم يتم خلق مضامين جديدة تهدم القوانين. ربما ما يجري يتمثل في الصراع الأمريكي الصيني، من أجل إعادة تكييف القوانين الدولية بصيغة مختلفة تلائم الوضع الجديد.
يصبح بالإمكان استثمار النفط في ليبيا، وكذلك في اليمن، وفي دول أخرى، ويمكن للقوى الدولية استعادة حضورها ودفع شكل الاستقلال الهش إلى أمر من الماضي. ومن الناحية الأخرى، إما أن تكون إسرائيل صديقة أو لا شيء. فهل تنقذ الإمارات نفسها عبر ذلك؟ ربما لا. كان الشاه صديقاً للغرب، واجتاحته ثورة، ومثل تلك الثورة لا يمكن حدوثها في بلدان صغيرة وشديدة الثراء، ولا تتيح مجالاً في الداخل لمعارضتها. لكن لهذا الدور أهميته، والإمارات لا يمكن أن تكون تهديداً، وقد نشهد مرحلة تخرج فيها إسرائيل من العزلة السياسية في المنطقة إلى لاعب مباشر، بعيداً عن الطرق الملتوية، وجرى التمهيد له بانفجار برميل البارود في المنطقة، وربما ستتم إعادة صياغة الخريطة.
فاليمن، على سبيل المثل، قابلة لأن تعود إلى ما قبل الستينيات، وربما إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ حكم ثيوقراطي في الشمال، وتوزيع أدوار صغيرة لفصائل مسلحة وزعماء محليين في مناطق أخرى، بينما ستتم إباحة الموانئ والجزر لأهواء القوى الدولية. نحن لا نجزم، لكن هناك أكثر من سيناريو يمكن حدوثه، والإدارة الأمريكية تقول إما صفقة القرن أو لا شيء. ودول صغيرة يمكن لها أن تلعب تلك الأدوار، لكن دعونا نستعد التاريخ منذ ذهب السادات إلى تل أبيب، وبعدها أوسلو، ولم يمنح التطبيع الفلسطينيين شيئاً من أرضهم، فكل التنازلات لم يكن ثمنها السلام، وحتى الوكلاء الطامعون بأدوار لن يكونوا بمأمن من العواصف المرتقبة.

الأكثر قراءة