المشاهد نت

جولة عن الأسرى والمعتقلين .. لماذا الآن؟

مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب وباحث في الشؤون السياسية

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها المتابع للشأن اليمني، والخاصة بموعد وظروف انعقاد جولة تفاوض جديدة بين ممثلين عن الحكومة والحوثيين في سويسرا، حول ملف الأسرى والمعتقلين.
في الـ18 من هذا الشهر، وفي فصل الخريف الذي مايزال فصل الصيف يتطاول عليه بنهارات دافئة، انطلقت جولة مشاورات ذات طابع فني صرف، حيث يجتمع، برعاية أممية ولجنة الصليب الأحمر الدولية، ممثلون عن أفرقاء السياسة والحرب اليمنيين.
هناك على ضفاف بحيرة ليمان أو بحيرة جنيف كما يحلو للجنيفيين تسميتها، وبين زرقة الماء الحليبي للبحيرة وبياض قمم الثلج، تقع مدينة مونترو السويسيرية.
على الجانب الفرنسي تشتهر هذه المدينة باعتبارها حاضنة لـ”مهرجان الضحك” السنوي الذي يقدم فيه مشاهير العروض الفردية، وأحياناً فنانون مغمورون تدفعهم روح المغامرة وجلادة تحمل النقد عن الفشل، عروضهم لإضحاك الجمهور الناطق بالفرنسية.

التساؤل الأكثر جدية وسدادة ليس عن الظرف المكاني الذي تنعقد فيه هذه الجولة، إنما حول فرص نجاح هذه الجولة من المفاوضات بجهود أممية بعد تعثر


مشاهير من المشهد اليمني أيضاً يتواجدون هناك لتقديم عروضهم عن حكاية الوجع اليمني. فموضوع جولة المفاوضات هو الأسرى والمعتقلون، وليس الضحك. لكن التساؤل الأكثر جدية وسدادة ليس عن الظرف المكاني الذي تنعقد فيه هذه الجولة، إنما حول فرص نجاح هذه الجولة من المفاوضات بجهود أممية بعد تعثر 3 جولات سابقة. نعم 3 جولات، وهذه الرابعة حول موضوع يعد جانباً “صغيراً” من مواضيع اتفاق ستوكهولم، بعد جانب إيقاف نيران الحرب.
والحقيقة أن هذه الجولة تأتي بعد سلسلة أحداث كبيرة، أهمها بالطبع المعارك الدائرة حول مأرب، والتي حشد الحوثي لأجلها كامل قواه بغرض إسقاط المدينة، وصولاً إلى منابع النفط والغاز، وانتزاع ورقة القوة الأهم لدى الحكومة الشرعية. ومقابل هذه الحملة العسكرية الشرسة، هناك صمت أممي وفي داخل أروقة الدبلوماسيات الدولية، عدا بعض التصريحات الخجولة التي توحي بضوء أخضر لما يدور، كأن الجميع ينتظر الرابح من هذه المعركة، ليتعامل مع الأمر الواقع.
لكنها أيضاً جولة جديدة بعد تعثر التقدم في تنفيذ اتفاق الرياض بين الحكومة والمجلس الانتقالي، والتي على أهميتها المأمولة في حلحلة الوضع وتعزيز الاستقرار السياسي، وبالتالي الخدمي والاقتصادي في المناطق التي تقع خارج سيطرة الحوثي، خصوصاً مناطق الجنوب التي تتقاسم نفوذها الحكومة والمجلس الانتقالي، فإنها تجعل من المجلس الانتقالي طرفاً في التفاوض المستقبلي حول السلام في اليمن، والمستقبل السياسي للبلاد، إلا أننا أمام جولة جديدة لا يخصص فيها مقعد للمجلس الانتقالي، ولا يسمع له رد فعل حول موضوع الأسرى والمعتقلين.
بالإضافة إلى حدثين آخرين لا يقلان أهمية، هما أولاً انتهاء جولات مكوكية للمبعوث الخاص السيد مارتن جريفيث، بين العواصم، لغرض تقريب وجهات النظر بين الحكومة والحوثيين، حول مسودة سلام شامل وحل سياسي، وفي كل جولة ينال المبعوث نصيباً كبيراً من التهم التي يطلقها عليه كل من أنصار الحكومة والحوثيين على السواء، بالتحيز وعدم الموضوعية وغياب الرؤية والافتقار للتصور الواضح. لتتبخر بذلك آمال اليمنيين في قدرة المبعوث الأممي، ومن ورائه جهود الأمم المتحدة، في جلب السلام إلى اليمن، سيما وأفواه البنادق تقذف النار والموت يومياً إلى اليمنيين من جنود ومدنيين.
ثانياً موضوع الكارثة البيئة الوشيكة في البحر الأحمر بسبب خزان سفينة صافر النفطي القديم والمتآكل. هذا الموضوع يأخذ أهمية متصاعدة مستحقة بالطبع، لكنه بكل أسف يستخدم كورقة سياسية. لذا لم تفلح الجهود الأممية في أي شيء حتى اللحظة، بسبب تعنت السلطات الحوثية بالدرجة الرئيسة.
هذه المعطيات الآنفة، وهي السياق العام الذي تدور حوله الأحداث سياسيا في اليمن، تجعل من انعقاد جولة جديدة من المشاورات حول الأسرى، لحظة احتدام معركة مأرب، هي الأشرس والأكثر دموية منذ بداية الحرب في اليمن، هروباً من كل منعطفات الفشل نحو الملف الذي يبدو متيسراً، وقد يضع بعض النقاط في رصيد القائمين عليه. كما لو أن ملف الأسرى والمعتقلين هو ورقة إنقاذ في الوقت المفقود.
لكن السنوات الـ6 من هذه الحرب، وما رافقها من مشاورات ومفاوضات وتصريحات متفائلة تدفعنا إلى اعتماد رؤية متشائمة جداً، مفادها أن القوى اليمنية المتحاربة اكتسبت خبرة متينة في تفريغ أي اتفاق من محتواه، والهبوط به من مضامينه الضامنة إلى السلام نحو جولات جدل وفقدان النوايا الحسنة.

إنها جولة أخرى من التأكيد على أن المقاربة الفنية التي ينفذها رعاة السلام في اليمن، تفتقر إلى القدرة على توظيف مكامن القوة -القانونية أولاً والتوافقية الخاصة بمكانة الأمم المتحدة- من أجل رسم مسار سياسي يخفف آلام اليمنيين.


حتى إن استجابة كل من الحكومة والحوثيين إلى هذه الجولة، هي شكل من أشكال امتصاص جهود المبعوث، وتهرب من تداول الملف الشائك والحقيقي، وهو الرؤية السياسية الشاملة للسلام.
الحرب تدور رحاها بكل عنف. ويتم تزجية الوقت بحديث حول ملف لا يعول على نحاجه كثيراً.
إنها جولة أخرى من التأكيد على أن المقاربة الفنية التي ينفذها رعاة السلام في اليمن، تفتقر إلى القدرة على توظيف مكامن القوة -القانونية أولاً والتوافقية الخاصة بمكانة الأمم المتحدة- من أجل رسم مسار سياسي يخفف آلام اليمنيين، ويعيد إليهم الثقة بالإدارة الدولية وقيم العدل والتضامن الدولي مع حقوق الناس الأساسية.
لقد جرت تجزئة الملف اليمني من قضية سياسية شاملة تؤطرها قرارات مجلس الأمن باعتبارها قضية واضحة فيها تمرد على الإرادة الشعبية واستخدام القوة في فرض الرأي السياسي، وحلولها تكمن بالعودة إلى مخرجات الحوار الوطني، إلى قضايا فرعية عبر اتفاقات جزئية من قبيل ستوكهولم دون التحسب إلى الانزلاق في مصفوفة تجزئة لا نهائية.
مونترو لن تكون أكثر من “مهرجان للضحك” على أوجاع الناس. وإذا كنا هنا ركزنا على الإخفاق الفني لدى رعاة السلام في اليمن، فإنه من الأولى أن نركز ونلقي باللائمة على التعنت الذي تبديه الأطراف المتحاربة في اليمن، وعلى ازدراء معاناة عائلات الضحايا، خصوصاً الذين اعتقلوا من بيوتهم بتهم باطلة، وصارت، على سبيل المثال، سجون الحوثي ومعتقلاته تزخر بالآلاف منهم دون ذنب، وبعضهم تعرض للتعذيب وقضى تحت سياط الجلادين.
السؤال عن “لماذا انعقدت هذه الجولة الآن؟” ليس أكثر من تقريض. فقضية الأسرى والمتعقلين تستحق الاهتمام الآن وكل وقت. لكن ما يعاب هو استطالة هذا الملف، وتبخر فرص حلحلته عبر الأمم المتحدة. خصوصاً أن آليات اجتماعية قبلية سمحت بخروج مئات المعتقلين والأسرى دون هذا التحشيد والتعبئة الدبلوماسية.
لقد تعثر السلام في اليمن بمطاولة الحرب وعبث المتحاربين واستهتار المتدخلين الإقليميين بحياة اليمنيين وباليمن، ولكن أيضاً بضياع الجهود وغياب بصيرتها. لذا فإن مراجعة بسيطة يمكنها أن تكلل هذه الجهود بالنجاح إذا اعتبرت أساس وجودها. وكما يقول المثل الأفريقي: “إذا تهت في وجهتك، فانظر من أين أتيت”.

الأكثر قراءة