المشاهد نت

مهمة جريفيث بين اللقطة والفزاعة

وضاح الجليل

وضاح الجليل

كاتب صحافي يمني

يمتلئ عالم اليوم بالسخرية من كل شيء تقريباً، وحتى المآسي والكوارث الإنسانية تواجه بالسخرية أكثر من التعاطف، ويصبح كل شيء تقريباً هزلياً ومضحكاً؛ لكن لقطة احتفال جريفيث بتوقيع اتفاق تبادل الأسرى بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، والمتمردين الحوثيين، حظيت بالإعجاب، وأصبحت مدخلاً للحديث عن تسوية سلام دائم في اليمن؛ برغم أن اللقطة تبدو مثيرة للسخرية لأي لبيب، وهي تصلح أن تكون عنواناً للهزلية التي اتسمت بها مهمة هذا الرجل الذي يعمل منذ عامين ونصف مبعوثاً دولياً لحل الأزمة في اليمن، وطوال هذه الفترة كُللت مهمته بالتصريحات والوعود الفارغة، ومحاولات الحصول على لقطة، ولأكثر من مرة لم ينجح سوى في التقاط صورة لنفسه جوار اثنين من أعضاء الوفدين المتفاوضين وهما يتصافحان؛ وكأن الانقلاب والحرب والمعاناة طويلة الأمد التي عاشها اليمنيون من موت وخراب وجوع وتشرد؛ كانت مجرد تضحية من أجل تلك اللقطة.
قد يتناقل الملايين مشهد انزلاق رجل في الشارع، أو سقوط امرأة من شرفة، أو تدحرج طفل على سلَّمٍ؛ بالكثير من الضحكات والابتسامات، وتوفر مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للمزيد من الضحك، برغم أن المشهد قد يكون مأساوياً، وبرغم أن صاحبه عانى الألم والخوف، وربما حمل معه إصابة لوقت طويل أو لبقية عمره، لكن مشهد رجل يرفع قبضتيه عالياً مع ابتسامة نصر واسعة وملامح مبتهجة، لم يكن فيها ما يستحق الضحك والسخرية، لقد بدا جريفيث أشبه بلاعب كرة قدم سجل هدفاً حاسماً في مباراة صعبة، وعلى بعد ثوانِ من انتهاء المباراة، فهو اختصر مهمته في لقطة، كان يبدو سعيداً بشكل هزلي وهو ينجز اتفاقاً يحقق الاستمرارية لمهمته التي بدأ الحديث عن جدوى استمراره فيها، هذا الاتفاق الذي يجعل مهمته تظهره كمكلف بإدارة الأزمة وتسييرها نحو اللاحل، وإذا ما قُدر له أن ينجز اتفاقاً سياسياً شاملاً؛ فهو سيكون على حساب الكثير من الحقائق والمآسي والتضحيات.
ولأن اللقطة عادة ما تأخذ بعداً إنسانياً، وإن كان غالباً ما يكون مزيفاً؛ فإن جريفيث، وقبله إسماعيل ولد الشيخ، حمَّلا مهمتهما هذا البعد منذ البداية، وسعيا دائماً لاستغلال المأساة الإنسانية في اليمن لإدارة الأزمة والحرب، لا من أجل حلها، وعوضاً عن الذهاب في مسارات حل الأزمة انطلاقاً من أسبابها أو واقعها على الأرض، وحسب معطياتها وأولوياتها ومقتضيات القانون الدولي؛ ذهبا إلى اتخاذ الأزمة الإنسانية مبرراً لنشاطهما، وسبيلاً لكل محاولاتهما الخروج بإنجاز، وإن كان محدوداً، أو يمكن تلخيصه في لقطة، وإن كان سلفهما جمال بن عمر استطاع مراراً وتكراراً إنتاج لقطات يكسب من خلالها الإعجاب والإشادة؛ إلا أنه كان يحصل على تلك اللقطات في ظل إدارته حواراً شاملاً بين مختلف القوى السياسية في فندق موفنبيك شرق العاصمة صنعاء، وكانت ولايته مليئة باللقطات اليومية لمئات من السياسيين والناشطين والقادة، أما المبعوثان اللذان أدارا هذه الأزمة طوال الأعوام الخمسة والنصف الماضية، فقد فشلا في الحصول على لقطة جيدة؛ فشل ولد الشيخ خلال مشاورات الكويت الماراثونية، في الحصول عليها، وسنح لجريفيث الحصول على واحدة في مشاورات ستوكهولم؛ غير أن حضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، حرمه منها، فظهر الأخير وهو يجمع قائدي الوفدين، وزير الخارجية السابق خالد اليماني، والناطق باسم جماعة الحوثي محمد عبدالسلام، للمصافحة، غير أن تلك اللقطة لم تكن تعني لجوتيريش الكثير بحكم منصبه، مقارنة بموقعي الاثنين اللذين جمعهما، وكانت اللقطة ستعني الكثير لجريفيث، الكثير جداً، وطوال 22 شهراً بحث عن فرصة لقطة مشابهة، وحظي بها أخيراً، لكن بعيداً عن كاميرات وسائل الإعلام، واكتفى بكاميرا أحد موظفي مكتبه، ليقوم هو بنشرها لاحقاً.
لكن حظ جريفيث يبدو جيداً هذه المرة، فقريباً ستصبح هذه اللقطة منسية تماماً، سواء تم تنفيذ الاتفاق أو ابتلعته مماطلات الحوثيين وخداعهم، وسيتعين على المبعوث الأممي البحث عن لقطة جديدة، فمعنوياته قد وجدت حافزاً جديداً، ومهمته حصلت على فرصة التمديد، وتنفيذ الاتفاق سيضمن له الحصول على لقطات جديدة من مواقع تبادل الأسرى في مطاري صنعاء وسيئون.
يبدو هذا الاتفاق ممكن النجاح، وإن كان في مضمونه ليس أكثر من تمثيلية هزلية وهابطة المستوى على يد جريفيث نفسه، وهو يعمل على إنقاذ مهمته من الموت بنبضات إنعاش يائسة، وليفرض على الجميع القبول باستمرار هذه المهمة كجثة متعفنة، والتعايش معها، وتمكين الحوثيين من تحقيق مكاسب سياسية لحماية تقدماتهم على الأرض خلال الأشهر الأخيرة أولاً، وتحويل ذلك إلى مكاسب معنوية أمام أنصارهم، وتمكين حالة اليأس المجتمعية من هزيمة هذه الجماعة ومشروعها، وإسقاط الحصانة الشعبية ضد القبول بها، فطالما والحكومة الشرعية ممثلة هذا المجتمع قبلت التفاوض وتقديم تنازلات في مثل هكذا ظروف؛ يدخل المجتمع في حالة إحباط وعدم ثقة بالحكومة، واستعداد للقبول بالمليشيا ومشروعها.
فمن خلال هذا الاتفاق حصل الحوثيون على مكسب جديد، إذ تخففوا من الضغوط الدولية لإجبارهم على تقديم تنازلات والدخول في مفاوضات حقيقية؛ وظهروا كطرف سياسي يستجيب للشرعية الدولية، ويتعاطى معها، وهذا يتناقض مع حقيقتهم كمليشيا.

كان جريفيث متهماً في السابق بتجزئة الأزمة اليمنية وتحويلها إلى ملفات متعددة، وبدا أن اتفاق ستوكهولم حول موانئ محافظة الحديدة أولى مراحل تلك التجزئة؛ حيث بدا أنه يعمل على تحييد الساحل الغربي لليمن، وتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، وتركيز الصراع في مناطق أخرى بعيدة عن البحر الأحمر وطرق الملاحة البحرية.


وإلى جانب ذلك؛ فإن ما يبدو نجاحاً لجريفيث؛ ليس سوى تأكيد على استمراره في إدارة الأزمة وإطالتها، واستبعاد حلها حلاً عادلاً، فنحن نقترب من إكمال العامين منذ اتفاق ستوكهولم الذي فشل تماماً، وأصبح فشله مكسباً للحوثيين، وتراجعت الآمال التي بُنيت عليه إلى مستوى القبول باتفاق تبادل أسرى هش وضئيل، برغم أنه كان ثمة اتفاق لتبادل الأسرى سبق مشاورات ستوكهولم بيومين، برعاية الأمم المتحدة، وتراجع عنه الحوثيون، وبدلاً من البحث في كيفية تنفيذه وإلزام الحوثيين بذلك؛ ذهب جريفيث إلى عقد مشاورات جانبية حوله كمكافأة للحوثيين على تنصلهم منه أكثر من مرة، في ما عُرِفَ بمشاورات عَمَّان، ليخرج علينا مؤخراً بهذا الاتفاق الذي؛ وإن كان يقدم خدمة إنسانية لبعض الأسرى والمختطفين؛ إلا أنه بعيد تماماً عن جوهر الأزمة، وأبعد ما يكون عن إمكانية حلها، وتحقيق العدالة التي تنتصر للمعاناة الإنسانية لليمنيين جميعاً.
كان جريفيث متهماً في السابق بتجزئة الأزمة اليمنية وتحويلها إلى ملفات متعددة، وبدا أن اتفاق ستوكهولم حول موانئ محافظة الحديدة أولى مراحل تلك التجزئة؛ حيث بدا أنه يعمل على تحييد الساحل الغربي لليمن، وتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، وتركيز الصراع في مناطق أخرى بعيدة عن البحر الأحمر وطرق الملاحة البحرية؛ إلا أن هذا الاتفاق نفسه تمت تجزئته وتحويله إلى مشاورات جانبية بين لجان من الحكومة والحوثيين، في مسلسل لانهائي من العبثية، جعل الاتفاق خارج الذاكرة، وسمح باستمرار الحديدة وموانئها في قبضة المليشيات، مع ما تحققه هذه الموانئ من دعم مالي واقتصادي لها.

يستمر جريفيث في أداء تقديم هذه التمثيلية البائسة مراهناً على استمرار ضعف السلطة الشرعية وهوانها، واستعدادها لتقديم التنازلات بأوامر الحلفاء من جهة، أو استجابة لضغوط المجتمع الدولي من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة على ما يبدو استسلاماً أمام رغبة جماعة الحوثي الجامحة في تنفيذ مشروعها الرجعي.


لكن جريفيث استغرق في تجزئة كل شيء؛ بما في ذلك الأزمة الإنسانية نفسها، فلم تعد المجاعة ونقص المواد الغذائية والوقود، وهي التي كانت محور اتفاق ستوكهولم، محفزاً لأي أنشطة جادة لوقف الحرب، وبينما يحاول الحوثيون الوصول إلى مأرب التي تؤوي أكثر من مليون ونصف مواطن نازح من مختلف مناطق البلاد، لا يرتفع صوت واحد، ولم يصدر موقف عن جريفيث أو رؤسائه في المنظمة الدولية يتحدث عن تبعات هذه الحملة الحوثية في حال تمكنت من الوصول إلى مأرب أو محاصرتها مجدداً.
يستمر جريفيث في أداء تقديم هذه التمثيلية البائسة مراهناً على استمرار ضعف السلطة الشرعية وهوانها، واستعدادها لتقديم التنازلات بأوامر الحلفاء من جهة، أو استجابة لضغوط المجتمع الدولي من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة على ما يبدو استسلاماً أمام رغبة جماعة الحوثي الجامحة في تنفيذ مشروعها الرجعي.
تعدّ الحكومة هي الممثل الشرعي الوحيد للمجتمع بحسب المعطيات المحلية والقانون الدولي، لكنها بتقديم التنازلات إزاء تعنت الحوثي وغطرسته؛ تفقد ثقة هذا المجتمع تدريجياً، والأسوأ من ذلك أن موافقتها على خوض مثل هكذا مفاوضات؛ تتسبب في فقدان المجتمع مناعته ضد المليشيا الانقلابية، وتسهم في تحييده وإخراجه من الصراع، وهو ما يفقدها الفاعلية، ويحولها بالتالي إلى الحياد أمام تغول المليشيا شمالاً وجنوباً.
وحيث إن الإفراج عن عشرات الأفراد من المختطفين لدى مليشيات الحوثي، تحت مسمى الأسرى؛ يبدو مهمة إنسانية عاجلة، نظراً لمعاناة هؤلاء المختطفين وأهاليهم؛ إلا أن المضمون الحقيقي للاتفاق لا يعني غالبية المختطفين الذين لم يشملهم الاتفاق من جهة، ومن جهة أخرى لأن عدد الأسرى الذين ستستعيدهم المليشيات أكبر من عدد المختطفين والأسرى الذين سيطلقون لصالح الحكومة والتحالف، ولأن ثمة عدداً من أسرى التحالف لدى المليشيات شملهم الاتفاق؛ فإن حظ جريفيث في الحصول على لقطات جديدة يبدو جيداً للغاية، مثلما يبدو أن مهمته ستستمر كفزاعة فقط.
لكنها فزاعة لا تُخيف إلا صاحب الحق.

الأكثر قراءة