المشاهد نت

تداعيات ما بعد سبتمبر

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

لم أحاول أن اجري إحصاءً أو أن أقرأ المضمون في ما كُتب عن ثورة 26 سبتمبر. لكني لاحظت بالمجمل أن كثافة التعبير عن الاحتفاء بذكرى الثورة، أقوى مما كانت في السنوات الماضية.
لاحظت أيضاً أن الأجيال الجديدة لا تقل إدراكاً لقيمة 26 سبتمبر، عن الأجيال التي عبرت على الجسر الواصل بين عهد الإمامة وعهود الجمهورية المتعاقبة، بالنتيجة، وبالموازة بين مرحلة الاستعمار والدولة الوطنية في الشطر الآخر.
لاحظت ثالثاً أن عدداً من الشباب المنتمي لتنظيم حزبي لم يكن مع الثورة -وإنما تسلل إلى صفوفها للانقضاض عليها وتفريغها من مضمونها الوطني- رفعوا الأعلام وغنوا الأناشيد تخليداً للذكرى، وتمجيداً للحدث. في ظن البعض أنه دور على المسرح، وأن المشاعر الحقيقية ضد الثورة ومبادئها، وربما انطبق هذا على بعضهم، لكن كثيراً منهم ينتمون لسبتمبر ومبادئه.
ثم لاحظت رابعاً أن كبار المنتسبين لنظام ما قبل 2011، الذين شغلوا المواقع، وأخذوا المكاسب، لم يعيروا المناسبة اهتمامهم. ليس في واردهم ولا شواردهم تلك الثورة المجيدة، رغم الفرصة التي وفرتها لهم.

لم يكن إبراهيم الحمدي من ضباط الثورة، لكنه التحق بها جندياً من جنودها البواسل، حتى أصبح قائدها المقتدر بعد 12 سنة من الفراغ.


ولاحظت أخيراً أن الذين كتبوا واستذكروا الأسماء، وضعوا الأسماء والصور حيث تصدر المشهد عبدالله السلال وعلي عبدالمغني وعبدالله جزيلان، وقليلاً منهم تذكر عبدالغني مطهر وعبدالرقيب عبدالوهاب وحسن العمري، وغيرهم كثيرون من رجال سبتمبر ومن أبطال ملحمة السبعين العظيمة، ولكن غاب إبراهيم الحمدي، الوجه البارز والناصع في مسيرة سبتمبر.
لم يكن إبراهيم الحمدي من ضباط الثورة، لكنه التحق بها جندياً من جنودها البواسل، حتى أصبح قائدها المقتدر بعد 12 سنة من الفراغ.

كان السلال وطنياً مخلصاً بالتأكيد، وكان شجاعاً بلا أدنى شك، لكن الثورة لم تجد القائد الذي يمتلك الخيال والطموح، ويتمتع بالكفاءة العالية في إدارة التوازنات، قبل إبراهيم الحمدي. لقد كان أفضل من عبر عن روح الثورة، وجسد مبادئها فوق الكرسي الأول.
غير أني أستأذن، قبل الحديث عنه، بجملة اعتراضية طويلة. وقد يبدو ما أقوله هنا جديداً وقاسياً، وربما اعتبره البعض ادعاء الحكمة بأثر رجعي. ولست أنكر إذ لم أكن هناك معهم حتى أقول إنني كنت سأتصرف خلاف ما فعلوا. ولا أستطيع تفسير ما فعلوه بأنه عدم دراية بعلم الحرب، فإن قادة الثورة درسوا في الكليات العسكرية، كما لا أرجع ذلك إلى افتقادهم الشجاعة، فقد كشفوا عن بطولات نادرة في حرب الدفاع عن الثورة.
أقول إنني لم أفهم لماذا وقف الثوار بدباباتهم في الميدان الذي اتخذ اسم ميدان التحرير، وأخذوا يقصفون من بعيد دار البشائر. وفي علم الحرب فقد كان واجبهم أن يطوقوه ويقتحموه بالقوة لكي لا يتيحوا للإمام الخروج والفرار.
كان القبض على الإمام يُسقط حق المطالبة بالعرش مادام صاحبه في عهدة الثورة، وتحت حراستها.

وقد يكون من الحكمة إخضاعه لمحاكمة تنتهي به في السجن، من غير الإقدام على إعدامه، فليس في ممارسته الحكم التي استمرت أسبوعاً، ولا في سيرته كولي للعهد، ما يجعله مستحقاً للموت، وكذلك لأن بقاءه حياً يقطع كل سبيل على من يريد من أعضاء أسرته أن يطالب بالعرش أو بالثأر كما فعل والده الإمام أحمد بعد مقتل جده يحيى، في فبراير 1948.
لا يغرب عن البال أن المؤامرة على الثورة كان مقدراً لها أن تنشأ حتى بدون طيف للشرعية، لكن النظام الجديد سيكون أقوى في هذه الحالة من الناحية المعنوية على الأقل، سيكون أقوى أمام الشعب في الداخل، وأمام المجتمع الدولي في الخارج.
تضافر هذا الفشل مع ممارسة مبكرة عكست وجهاً غير مريح للنظام الجديد عندما انزلق إلى العنف، وانغمس في الدم، ونكل ببعض الاسر لأن عائلها من كبار موظفي الإمام أو من المتعاطفين معهم. ولم يكن ذلك السلوك بالقطع انتقاماً من الهاشميين كما روت بعض السرديات، لأن رئيس محكمة الثورة العميد محمد الشرعي، كان هاشمياً أيضاً. لكن الانزلاق إلى العنف بلغ حد إنتاج ظاهرة هادي عيسى الذي قتل كل من وصل إلى داره ولو لم يكن مطلوباً، فشاعت العبارة المنسوبة إليه “قد اسمه وصل”.

وإذ دارت موجة العنف فقد أخذته هو الآخر. ثم إن أزمة النظام اشتدت إلى أن وقع انقلاب 5 نوفمبر، اغرق اليمن 7 سنوات في الظلام، وكاد الناس يرون الإمامة ظاهرة في وجوه الحكام الجمهوريين، بما في ذلك أزياءهم ولغتهم السياسية الزاحفة من وراء العصر. وعادت سطوة العكفة والبوليس، واشتدت المظالم وأثقلت كواهل الفلاحين وذكرتهم بالعهد البغيض.
هناك في تلك السنوات السوداء عم الفساد، وأقيمت محاكم تفتيش حقيقية تولى فيها دور الجلاد محمد خميس وغالب عبدالله راجح.
وأخيراً، أخيراً بعد سنوات الهوان، طلع البدر؛ بدر حقيقي هذه المرة. ليس ذلك الذي ابتلعه موج البحر في 1932، ولا الذي قذفت به رياح الثورة إلى كهف في الجوف قبل أن يستقر مهزوماً ومدحوراً في “كنت” إحدى ضواحي العاصمة البريطانية لندن.
جاء إبراهيم الحمدي وجهاً آخر بوسامته وجاذبيته وحلته ولغته السياسية وإحساسه بالناس.
جاء إبراهيم الحمدي بانقلاب غير مألوف، كما انتهى بعد 40 شهراً بانقلاب غير مألوفاً أيضاً.

وكان إبراهيم الحمدي صاحب خيال واسع، وقدرة هائلة على تثوير المجتمع، ودفعه إلى العمل في المجالات المختلفة، ودفعه إلى الانجاز الكثير بقليل من الضجيج. وكان بالقرب منه ضجيج كثير، وإنجاز قليل.


وجه الجدة في مجيئه أنه لم يحاول استمداد الشرعية من تخوين النظام الذي انقلب عليه، وكان مكروهاً ومداناً من قبل الشعب، وإنما قدم نفسه كحركة تصحيحية من داخل النظام نفسه، رغم أنه أحدث انقلاباً كاملاً وجذرياً على نظام 5 نوفمبر، وعودة حقيقية، بل تمثيلاً أميناً في حقيقة الأمر بروح مبادئ سبتمبر التي لم تجد طريقها إلى التحقق حتى في عهدها الأول؛ فترة حكم السلال.
كانت الحركة ثورة في الثورة، على حد تعبير الفرنسي ريجيس دوبريه. والحمدي لم يشطح ويتحدث عن أهداف عليا اخترعتها حركته، بل تواضع وأعلن إخلاصه لأهداف الثورة التي لم يصكها بيده، كما ألح دائماً على طموحات 13 يونيو، والسعي لبناء الدولة المركزية الحديثة، وهو مفهوم يضم معاني عميقة، وواسع الدلالة في بلد كانت مراكز القوى القبلية تتحكم بمقاديره.
وكان إبراهيم الحمدي صاحب خيال واسع، وقدرة هائلة على تثوير المجتمع، ودفعه إلى العمل في المجالات المختلفة، ودفعه إلى الانجاز الكثير بقليل من الضجيج. وكان بالقرب منه ضجيج كثير، وإنجاز قليل.
غير المألوف في حركة 13 يونيو، أنها لم تلقِ بأحد من أركان النظام السابق في السجن، وبعضهم ارتكب جرائم فاحشة في حق الشعب، وإنما اكتفت بتجريدهم من الامتيازات دون أن تصادر حقهم في العمل السياسي في المجالات المتاحة شعبياً كما في حركة التعاونيات، حيث استطاع بعض المشائخ أن يبقوا في الواجهة، وأن يحتفظوا بدور.
ثم جاء الانقلاب على إبراهيم الحمدي، في أكتوبر 1977، غير مألوف. وليمة للموت لم يشبهها أي انقلاب على صعيد الدنيا كلها، في هذا العصر.

الأكثر قراءة