المشاهد نت

العالم الباذخ… صراع على الحلم وحيوات مؤجلة

نجلاء العمري

نجلاء العمري

كاتبة صحافية يمنية

توقفت طويلاً أمام مشهد احتلال الضباع للمدينة في كرتون الأسد الملك (the lion king)، وأعادت إلى ذاكرتي مشهد الحوثيين وهم يحتلون العاصمة صنعاء.
كنا حينها -أنا وفريق العمل لمنظمة شركاء اليمن- مسافرين إلى عدن، وفي الطريق.. وقبل الخروج من صنعاء، كانت الضباع تتدافع من الأطراف، لتحاصر المدينة.
خرجنا تحت أصوات الرصاص، وذلك المشهد الذي لن تمحوه الأيام للجماعة المحملة بالنقمة والخارجة من الكهوف لتحكم بلد الإيمان والحكمة بالسلاح والترويع والإذلال.. للجماعة التي كمنت لنا لتستعيد ما تظنه موروثها التاريخي بأمر الله وأمر الرسول.. ونفثت سمومها في لحظة سانحة لتحكم سيطرتها على الجسد المسجى، وتعيد امتصاصه كأبشع عصابة تسيطر على مقدرات شعب فقير ومنهك، فتزيده وجعاً وإنهاكاً.
كنا نظن أن ما يحدث هو فيلم أقرب ما يكون إلى الخيال.. فيلم هوليوودي سرعان ما سيتصدى فيه البطل لكل ذلك العبث، وتعيد انتفاضة ما الأمور إلى نصابها.
لكن العبث طال.. والأبطال الهوليوةديون اتضح لنا أنهم مجرد أكذوبة، والانتفاضة المرجوة في عمر الشعوب نادرة وعصيبة، فالناس تأمل في الخلاص، لكنها عندما ينال منها اليأس تتكيف، ولا تعود راغبة في التغيير وخسران حالة من الاستقرار الكاذب والمخادع، وإن كانت على حساب حريتها وسعادتها ومستقبلها.
أما الحقيقة التي كانت قائمة أمام أعيننا -غير أننا كنا نتمنى العمى على أن نراها- فهي أن الكل كان قد فقد البوصلة، لذا عبر القراصنة إلى الشاطئ تحت سمع وبصر الجميع.
البعض رأى أنهم انقلابيون، والبعض ظن أنهم منقذون، وأنهم جزء من الكل، ومن حقهم الحصول على فرصة، وإن كانت الفرصة المميتة، وعلى حساب 25 مليون يمني، كلهم يتمنون فرصة مشابهة، غير أنهم لم يطوروا مظلومياتهم بعد، ولم يشتغلوا على لوبي راديكالي سلالي استطاع تمييع القضية والعبث بالحقائق.
وفي ظل مزاج دولي وإقليمي براجماتي، تحولت اليمن إلى كيكة تقاسمتها الأطراف المحتفلة على دمائنا وأشلائنا.
وكل ذلك لا يعني شيئاً.. فعندما تسقط الذبيحة تكثر السكاكين، لكن يشق علينا تلك السكاكين التي نوجهها بأيدينا إلى بعضنا البعض، في لحظات شاقة ومؤلمة نكون أحوج ما نكون فيها إلى الغوث والمساندة والابتعاد عن الأحقاد التاريخية والمهاترات العبثية.
تتقلص الخارطة يوماً بعد يوم، وأبناء حمير وقتبان وبلقيس وأروى يتصارعون على ما تتركه الضباع لهم، وهم ملوك الأرض وأسيادها.. وإذا نهضوا نهضت الدنيا معهم، لكنهم يرضون بالقليل، وما ذلك إلا الهوان الكثير والعار الذي لا يمحى، فلا أرض إلا أرضنا، ولا تاريخ إلا تاريخنا.
وذاكرة اليمني زاخرة وغنية بالسدود والمدرجات والقمريات والزخارف، قادرة في لحظات على ارتداء أبهى حلل التاريخ، واسترداد المجد والسؤدد، ولكن في حالة واحدة فقط، وهي رؤية وطنية جامعة ليمن ناهض ومزدهر، يمن أعظم من أكثر الدول تقدماً، وأجمل من كل بلدان الدنيا.
دعوني أحلم كطفلة.. فلا ملاذ لنا إلا الحلم، ونحن نراقب العالم الباذخ يتصارع على بلدنا الفقير المهترئ، ويضرب عرض الحائط بآمالنا وحيواتنا المؤجلة.
ننظر إليهم وهم يرقصون ويبتهجون، ونحن نحوم كنوارس مجروحة باحثة عن المرافئ المحملة برائحة الأرض والذكريات.
نراقبهم وهم يتفننون في بناء المدن بناطحاتها وجسورها وحدائقها وشوارعها، ويخلقون الجمال في كل زاوية، بينما يفيضون بالقبح على مدننا وحياتنا المؤجلة حتى إشعار آخر.
كم هذا التناقض مؤلم.. غير أنه ليس علينا الذهاب بعيداً في حالة إلقاء كل اللوم على الآخر، لأن سنة الحياة أن يصعد القوي على أكتاف الضعيف، وأن يستغل القادر من ليس لديه القوة والقدرة.. وأن تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الأخرى الصغيرة.
غير أن من سنن الحياة أيضاً أن الأيام دول، وأن الصغير يكبر، والكبير يصبح شيخاً واهناً، والقوي يضعف وتذهب عنه قوته، وأن صاحب المال والجبروت تدور عليه الدوائر، فلا يصبح ذا مال، ولا يدوم له العز والتعالي.
وبين سنن وسنن نتقلب ونتمكن ونختار.. غير أن ذلك الخيار هو الطريق الوحيد الذي لا عودة منه، فهو الطريق إلى الصيرورة، وبدونها يضمحل الوجود، ويلفنا العدم، وهو طريق الكبار الذين يدركون أن الموت لا شيء، وأن الحياة هي العزة والكرامة وامتلاك القرار والسيادة.

الأكثر قراءة