المشاهد نت

يمن بلا بذور

محمد جازم

محمد جازم

كاتب صحافي وروائي يمني

ذات يوم، وفي إحدى القرى اليمنية، صحا أحد المزارعين على أصوات الفلاحين وهم يستعدون لموسم زراعي جديد؛ فبحث عن البذور التي ادخرها من العام المنصرم؛ لكنه لم يجدها. طرق الأبواب التي كان “يتوسلها” أحياناً للحاجة، فلم يجد عندهم شيئاً. هكذا وعلى حين غرة انسد الأفق أمام عينيه؛ فذهب في سُبل البحث إلى أن استقر به المقام عند أحد أصدقائه من محافظة إب البعيدة عن محافظته، ومنه طلب بذور حبوب الذرة الرفيعة، مؤكداً انه يريد بذوراً كبيرة الحجم من النوع الذي نسميه: “الهاجر”، وقد كان له ما أراد، غير أن المفاجأة حدثت حين ارتفعت رؤوس “أكواز الذرة” المشتهاة؛ فإذا بها متفرقة متشظية، لا يجمع بين “أعذاقها” سوى الترهل، ولا يسود بيوت حبوبها سوى العماء. وإذا بفلاحنا أكثر بؤساً من البائع ديناً؛ أو على الأرجح أكثر بؤساً ممن غرقت تجارته في البحر، وإذا به أيضاً حديث أهالي القرية ومثار سخريتهم؛ لأن الفلاح لا يفرط “بخريطة” بذوره مهما حدث.

الكثير من المزارعين الذين اضطرتهم مناطق النزاع إلى النزوح؛ نجوا بأرواحهم فقط، فارين من موت محقق، تاركين خلفهم كل شيء، ومن ذلك: بذور المحاصيل التي تعني الأصالة والانتماء والهوية، وهو الأمر الذي اضطرهم إلى شراء بذور من المحلات التجارية.


ولن أخفي على القارئ هنا حقيقة مخاوفي التي استجدت مع الحرب من أن الكثير من المزارعين الذين اضطرتهم مناطق النزاع إلى النزوح؛ نجوا بأرواحهم فقط، فارين من موت محقق، تاركين خلفهم كل شيء، ومن ذلك: بذور المحاصيل التي تعني الأصالة والانتماء والهوية، وهو الأمر الذي اضطرهم إلى شراء بذور من المحلات التجارية. حدث ذلك حين عادوا إلى قراهم، بعد سنوات من الفرار، وكانت النتيجة مخيبة لآمالهم ولآمالنا جميعاً، لأنهم لم يحصدوا سوى علف لأبقارهم؛ حقاً إن الحكمة ضالة المؤمن.
لقد هالني وروعني ما سمعته قبل أيام في إحدى الإذاعات من أحد خبراء الزراعة في بلادنا، حيث إنه أفاد بأن بذور بعض المحاصيل الزراعية الوطنية.. أو ما نسميها البذور “المحلية -البلدي”، لم يعد لها وجود، وأصبح عدد غير قليل من الفلاحين والمزارعين لكي يزرعوا الخضروات أو الباميا أو الكوسا أو الحبحب مثلاً؛ يشترون بذورها من الخارج.

وأفاد الخبير أن عملية الشراء لا تحدث مرة واحدة؛ فلا بد من شرائها في كل موسم زراعي؛ ما يعني أن هذه البذور لا تُستخدم إلا مرة واحدة. وأفاد خبيرنا أن سبب ذلك يعود إلى أن معظم المنظمات الأجنبية المهتمة بالزراعة في اليمن، كانت تشتري البذور بحجة الحفاظ عليها في المعامل الأجنبية لإجراء الدراسات البحثية عليها من أجل إدخال تحسينات على أصولها الوراثية، وفي كل مرة كانت هذه المنظمات تشتري البذور، إلى أن انتهت مدخرات الفلاحين من بيوتهم، وانتهت من الأسواق ومن مخازن البذور الرسمية في طول البلد وعرضه، ولم يجد المزارعون أية حيلة سوى شراء تلك المحاصيل من المنظمات والدول الأجنبية التي أخذتها بثمن زهيد، وأعادتها إلينا بثمن باهظ، ووفق خطة محكمة مورست في أكثر من قطاع خدمي وتوثيقي.

لا أفول هذا من أجل التضييق على المنظمات الفاعلة والنشطة؛ ولكن على سبيل قرع الأجراس وأخذ الحيطة والحذر وإسداء النصح ووضع المعالجات بدلاً من المماحكات التي لا تجدي؛ لأن هذا الأمر يتعلق بالبقاء والذاتية والهوية؛ فمن غير المعقول أن يصبح بلد الأصول بلا بذور ولا جذور، والأمر قد ينسحب على الحبوب التي تمثل عمق الحياة اليمنية، كحبوب الدخن والذرة الشامية والذرة الرفيعة والقمح والغَرِب والشعير، وغير ذلك، لأنها النتيجة الحتمية للحرب طويلة الأمد، وما خفي كان أمرّ وأدهى، ولعل الكثير من القراء يعرفون أن “الرعوي” الأصيل المتمسك بتقاليد الفلاحة في بلادنا منذ آلاف السنين، ينتقي في كل موسم حصاد الحَبً “الهاجر” من طعامه، فيخزنه للموسم القادم، وإن لم يجد -في حقوله ومدخره- ما يفي بالغرض استعان بمخازن الرعية من مزارعي قريته، وإن لم يجد استعان بآخرين من القرى المجاورة التي يقفون على نفس التربة والمناخ.
وأود أن أتساءل: هل تستطيع المؤامرات الداخلية والخارجية أن تجتث شعباً ما من جذوره؟ نعم تستطيع إذا كان قادة هذا الشعب “يسوسون الأنام بغير علم”، على حد تعبير أبي العلاء المعري، فضلاً عن أن هؤلاء القادة لديهم من الأسلحة الفتاكة ما يفوق الخيال، ويجيدون استخدامها على بعضهم البعض، وأن هذا هو شغلهم الشاغل، فعليه يعيشون، ومنه يقتاتون؛ إضافة إلى أن هؤلاء القادة يعانون من أمراض مستفحلة كالجهل والمرض الذي يتصاعد، فيصبح زهايمر أحياناً، ويفتقرون إلى الخيال، وتعوزهم الحكمة والشعور بالمحبة. ما الذي يمكننا أن نفعله حيال قادة صعدوا إلى مناصبهم عبر القوة والغلبة، تشتتوا فذهبت ريحهم، وأصبحوا لا يمتلكون سوى ذاكرة الذبابة التي تختفي كل ثانيتين، وقد صدق نجيب محفوظ الروائي النوبلي حين قال: “الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت لا تدري”، ما يعني أن الموت يبدأ في الرأس، وهذا ما يحدث اليوم، فلو كان المتعلقون بتلابيب السلطة يعون أن هذه الحرب قتلت الأخضر واليابس، لعادوا إلى رشدهم، ولكنها الذاكرة التي لا تلين لمن قست قلوبهم.

الذي يحدث في بلادنا اليوم من استنزاف للقوى البشرية والقوى الطبيعية، والصراع على المصالح الذاتية الوهمية التي لا تعني سوى تغييب الحق الجماعي للشعب، ذلك الحق الذي بالإمكان الحصول عليه عبر التعليم والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات والصناديق الانتخابية التي تضمن تداولاً سلمياً للسلطة.


إن اقتلاع أي شعب من الشعوب لا يعني دائماً استبدال شعب بشعب، وإن كان التاريخ قد أثبت أن مثل ذلك يحدث، إلا أن الاقتلاع الذي أعنيه هنا هذا الذي يحدث في بلادنا اليوم من استنزاف للقوى البشرية والقوى الطبيعية، والصراع على المصالح الذاتية الوهمية التي لا تعني سوى تغييب الحق الجماعي للشعب، ذلك الحق الذي بالإمكان الحصول عليه عبر التعليم والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات والصناديق الانتخابية التي تضمن تداولاً سلمياً للسلطة.

أن اليمن غنية بالأعشاب والزهور والفواكه، حيث إن طبيب الرحلة “فورسكال” اكتشف 5 أعشاب قال بأنها ستغير وجهة الدواء الطبي في العالم، وحين صعد إلى قمة جبل صبر في مدينة تعز، أشار إلى أنه حصل على زهور نادرة جداً؛ وأما حين وصل صنعاء فقد ذكر أن فيها 20 نوعاً من العنب.


وفي هذا المقام أزعم أن السؤال الذي ربما لم يتبادر إلى ذهن المهتمين بالشأن الزراعي في بلادنا، وعلى رأسهم وزراء الزراعة المتعاقبون، هو لماذا تأخذ المنظمات هذه البذور الأصيلة؟ أما الذين تبادر السؤال إلى أذهانهم فقد قللوا من شأن هذا التصرف، فما الذي يمكن أن تفعله المنظمات بالبذور غير إجراء بعض الدراسات والأبحاث والمعاينات التي ربما عادت بالنفع على مزارعنا، في تكثير الثمار وتحسين الخصوبة، لأن الكثير من المهتمين بالشأن الزراعي يدركون أن زراعة بعض المحاصيل في غير موطنها الأصلي، ربما لا تعود بالنفع.
ولن أخفي على القارئ -أيضاً- أنه حضرتني هنا الكثير من التساؤلات، فكيف يمكن أن يحصل هذا في بلد اشتهر تاريخياً بالزراعة، ومن المعلوم أن الرحالة نيبور الذي زار اليمن عام 1767، ذكر -كغيره من الرحالة- أن اليمن غنية بالأعشاب والزهور والفواكه، حيث إن طبيب الرحلة “فورسكال” اكتشف 5 أعشاب قال بأنها ستغير وجهة الدواء الطبي في العالم، وحين صعد إلى قمة جبل صبر في مدينة تعز، أشار إلى أنه حصل على زهور نادرة جداً؛ وأما حين وصل صنعاء فقد ذكر أن فيها 20 نوعاً من العنب.
وللزراعة في اليمن مذاق مختلف؛ فاليمن أرض جبلية، وأمطارها موسمية، الأمر الذي قاد اليمنيين إلى بناء مدرجات في رؤوس الجبال، وفي السهول بنوا السدود، وشقوا القنوات، واختطوا لأنفسهم الحقول الخصبة في الهضاب، وتفننوا في تخضيب الأرض بالبساتين والجنان التي ذكرها الله في محكم آياته. ولعل سد مأرب العظيم الذي ارتقى ليصبح إحدى عجائب الدنيا، خير شاهد على الإمكانيات اللامحدودة في هذا المجال، فضلاً عن أن اليمني عرف الزراعة قبل الكثير من شعوب العالم، فظهر الحكماء الذين عملوا على تجسير العلاقة بين السماء والأرض، ومن ذلك أقوال الحكيم الحميد بن منصور والحكيم علي ولد زائد:
“ما يجبر الفقر جابر إلا البقر والزراعة
وإلا جمالا تسافر تقبل بكل البضاعة”
ولشدة إعجاب اليمني بالزراعة، خلّد أقول الحكماء، وعدّهم بعض الباحثين آلهة عرفها اليمنيون قبل الإسلام؛ وفوق هذا وذاك علينا أن نعرف أن برنامج الغذاء العالمي أعلن، في الأيام القليلة الماضية، أن الجوع أودى بحياة 7 ملايين إنسان حول العالم، خلال عام، وأنه يهدد 137 مليوناً آخرين. أما اليمن فإن المجاعة تحلق فوق رؤوس أكثر من 20 مليون إنسان. ويجدر بنا أن نشير إلى أن اليمن يفتقر للأمن الغذائي، لأن المجاعة اختطفت خلال السنوات الماضية، عشرات الآلاف من النساء والأطفال، بسبب الجوع، وهو الأمر الذي دفع بالإغاثة الدولية إلى تدارك الأمر، ما يعني أن هناك مجاعة غير معلنة تشترك في أسبابها الحرب والحصار وقوى داخلية وإقليمية ودولية، ويتم درئها بما يسد الرمق.

الأكثر قراءة