المشاهد نت

البحث عن أغنية صنعانية في عدن

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحفي يمني

كثير من القصص لم تروَ كما يجب، وفي اليمن لا توجد قصة مكتملة؛ عدا أن ما له صلة بالغناء يصبح بمثابة أحجية. وحين يسمح أحدنا لنفسه ببث الخيال، باحثاً عن لحن صنعاني ضائع، من الممكن تصور لحن كان سيعرض للضياع لولا الدور الذي لعبته عدن في الحفاظ على هذا الموروث. تُرى أي شكل من التأثيرات التي عرفها هذا الغناء في عدن، مقارنة بما كان عليه.


من غير المستبعد أن الغناء الصنعاني تفاعل مع محيطه العام في عدن، وتأثر بصورة ما. فعندما شهد الغناء في صنعاء نوعاً من الانقطاع بسبب تجريمه من الأئمة، تواصل في عدن. وأصبحت الأسطوانات المُعرفة بكلمة “صنعاني”، مرجعاً مهماً لتقاليد الغناء الصنعاني. والغناء في اليمن عاش تيهاً داخلياً خلال مراكز متعددة؛ إما بسبب القمع أو انقضاء عهد الرعاية له.


في صورة نادرة تكاد تكون أقدم وثيقة كدلالة على رعاية عدن للغناء الصنعاني، قبل ظهور التسجيلات. تجمع الصورة ثلاثة أشخاص، في المنتصف يجلس أحد أبرز مشائخ الغناء الصنعاني، بداية القرن العشرين، وهو عتيق محمد وزير، الهارب من صنعاء إثر حظر الأئمة للغناء. وبجانبه حسن عبده حمزة، أحد الرعاة العدنيين المعروفين للغناء الصنعاني، وعلى الجانب الآخر عازف إيقاع يضرب على صحن نحاسي. وكما يبدو فالصورة التُقطت بينما يقدم وزير وصلة غناء صنعاني، محتضناً القنبوس “العود اليمني التقليدي”.


من الصعب التعامل مع الغناء كمشهد بصري، فالصورة الساكنة تروي جانباً فقط، ومن ورائه المشهد الفاجع الذي واجهه الغناء في صنعاء. ربما سبق لوزير ان وصل عدن في حالة رثة، لا يملك سوى صوته، ومخزون من الألحان، إذ إن الصورة تبيح لنا الجزء المُرمم من قصة مأساوية عرفها الغناء الصنعاني. كانت نظرته الوقورة فارغة بينما يضرب على آلة القنبوس؛ وبجانبه النظرة الواثقة للرجل العدني من وراء عدستين دائريتين. وأمامهما مداعة تقف على صحن نحاسي كبير، وتلتف القصبة بصورة عمودية، وحولهما بعض الطنافس، وعلى ماسة صغيرة تُركت آلة إيقاع، هي المرواس.


تعود الصورة إلى أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، لكن وزير، قرر أن يشق البحر إلى الضفة الأخرى، ومات في جيبوتي عام 1921. لم يكن الوحيد من مشائخ الغناء الصنعاني الذين اختاروا الهجرة خارج اليمن، بينما استقر البعض في عدن. بعد موته بأكثر من عقد، ظهرت شركات تسجيل الأسطوانات في عدن، بعضها تم تعريفه بكلمة “صنعاني” للدلالة على لون الغناء.


لكن سنعود لسؤالنا عن الأثر الذي أتاحته عدن لهذا الغناء. يثير كتاب الدكتور محمد عبده غانم “شعر الغناء الصنعاني”، اشتباهاً حول ثلاثة ألحان استبعد قصائدها من دراسته التي حاز عنها درجة الدكتوراه من جامعة لندن البريطانية. فلحن قصيدتي “أراك طروباً” و”نالت على يدها”، أقرب إلى اللون اليافعي، من وجهة نظره؛ بينما أشار إلى أن قصيدة “سقى المطيرة ذات الظل والشجر” أقرب إلى لحن كويتي.


على أية حال، لا يمكن التفريق إلى درجة مؤكدة بجذور بعض الألحان اليمنية، ما إن كانت تنتمي إلى لون بعينه، كما أن الغناء الصنعاني استعار ألحاناً ضمن فضائه اليمني، وطوعها لأسلوبه. وعلى غرار ما ذهب إليه غانم، يمكن الاشتباه في تسجيلات صنعانية أخرى، باعتبارها لوناً يافعياً، كما أن مشائخ الغناء الصنعاني قدموا ألحاناً محلية أخرى. وسجل قعطبي والجراش وآخرون ألحاناً هندية، وضعوا عليها كلمات عربية. وكان قعطبي يقدم اللحن الهندي في مخادر الأعراس، أي أنهم حاولوا التعامل مع ذائقات مُختلفة للجمهور العدني.


ربما أيضاً تم توظيف إيقاعات كويتية في لحن صنعاني، كما أنه تم تضمين أسلوب هندي على لحن صنعاني في أغنية “أثارت شجى قلبي المُستهام”، بصوت علي الجراش. فمع احتدام منافسة الأشكال الغنائية الأخرى؛ مصرية وهندية، انتشرت عبر السينما، وأيضاً لحجية بألحان القومندان، دفعت مشائخ الغناء الصنعاني أو شركات الإنتاج لمحاولة هضم بعض تلك التفاعلات. مع أنه لا يوجد أي دليل مادي يمكننا الجزم من خلاله.


لكن هل استنفد مشائخ الغناء الصنعاني مخزونهم من هذا الغناء، واستعانوا بألحان أخرى محلية، وربما أخرى؟ وعلى سبيل المثل، قدم إبراهيم الماس أغاني المداحين العائدة لجابر رزق، ضمن تعريف صنعاني. لكنها بصورة عامة اتخذت أساليب هذا الغناء. كما أن الغناء الصنعاني استعان بألحان يمنية أخرى، وعلى سبيل المثل فلحن الدودحية الذي يعود إلى منطقة وادي بنا وسط اليمن، نراه في تسجيل صنعاني ظهر في عدن، واعتمده الآنسي في لحن “خطر غصن القنا”، مع محاولة تطويره.


بالتأكيد، كان دافع شركات التسجيل من تقديم تلك الأغاني، الربح، وليس الحفاظ عليها كموروث. لكن صلة عدن بالغناء الصنعاني تعود إلى فترة قديمة، وخصوصاً بين نخبتها. وربما إلى أواخر القرن التاسع عشر أو فترة أقدم، فف 1905، استضاف أحد أغنياء عدن عدداً من مشائخ الغناء الصنعاني، لإقامة حفل عرس أولاده، وكان حدثاً استثنائياً وقتها.
ورغم أن ذاكرة الغناء الصنعاني المحفوظة لنا، تعود أقدمها إلى الفترة العدنية، من خلال تلك الأسطوانات المُسجلة والمحفوظة عن الألحان الصنعانية، ظلت صنعاء تمارس دورها كمصدر لهذا الغناء في زمن التحريم. وعلى سبيل المثل كان الشيخ محمد العطاب يجلب أغاني صنعانية لصديقه وابن بلدته كوكبان، الشيخ محمد الماس، كلما زار عدن قادماً من صنعاء. وتشهد جلساتهما أحاديث غناء وأشجان أثرت مخيلة نجل الماس؛ إبراهيم، فأصبح أحد أبرز مشائخ الغناء الصنعاني في عدن.


لا توجد تفاصيل واسعة حول أسباب تلك الزيارات المتواصلة التي كان يقوم بها العطاب، هل كان يقيم بعض احتفالات الأعراس، أو لينعم بحرية الغناء المحظور في الشمال، أو أن قدومه كان بغرض التجارة؟ وربما اتخذت منه بعض تلك الألحان وسيلة للبقاء في وجه النسيان. وللأغاني غريزة الطيور تعرف كيف تهاجر أو تعود.
ربما ضاعت بعض الأغاني في الطريق، للنسيان قدرته على تشكيل الحاضر. لا يخطر في بال أحد منا أن تكون هناك ألحان صنعانية استحدثت في عدن، كما أننا لا نعثر على وثائق تؤكد لنا ما هي الألحان التي حافظت عليها عدن، ولم تعد معروفة في صنعاء، عندما انتهى عهد تحريم الغناء. لكن هل ظهرت أغانٍ صنعانية في عدن بمظهر مغاير عما كانته؟ هل شهدت عدن ولادة بعض تلك الأغاني؟
لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته عدن، وبشهادة الفنان الراحل محمد الحارثي، كان لها فضل على الغناء الصنعاني، حافظت عليه وطورته. لكن ما حدث من تطوير هناك للأغنية الصنعانية بحاجة إلى دراسات مُعمقة. عبر التاريخ تناوبت المدن اليمنية في احتضان الغناء اليمني من رحلة شتاته المُنعكسة بالحروب وعدم الاستقرار. قالت عدن كلمتها؛ وما نعرفه عن الجزء الأهم من ذاكرة الغناء الصنعاني خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان عدنياً، في وقت عانى هذا الغناء خطر الاحتضار في مهده.


يبدو أني فقدت خيوط البحث، لكنها قصة شيقة من باب التخيل، وليس من باب الوجود؛ أغنية صنعانية ولدت في عدن، ربما صورة استرجاع للحن اختلط بروح عدن، بمعنى هل ظهرت أغانٍ “صعدنية” في حال اشتققنا لفظاً يدمج اسم المدينتين اليمنيتين الأكثر أهمية؟ ربما نعرف القصة المبتورة عن روح عدن التي كانت مجمعاً لكل اليمنيين وغنائهم؛ فماذا عن القصص المُتخيلة؟

الأكثر قراءة