المشاهد نت

المستأجرون في صنعاء بين الرحيل الصامت والمعاناة

د. سامية عبد المجيد الأغبري

د. سامية عبد المجيد الأغبري

أستاذ الصحافة المساعد بكلية الإعلام - جامعة صنعاء

جاءت إحدى قريباتي لزيارتنا في عزاء عائلي، منذ حوالي أسبوعين، وكعادتها كانت تجلس إلى ما بعد العشاء، لكنها هذه المرة كانت قلقة، وتنظر بين الفينة والأخرى إلى الساعة الحائطية، ثم فجأة نهضت على عجل، ولبست عباءتها، وتأهبت للخروج. نظرت إليها باستغراب، وقلت لها: لماذا تستعجلين العودة إلى البيت وأنت تسكنين في الحارة نفسها؟ لكنها ردت بحسرة بعد أن أخرجت تنهيدة حارة: “لقد تركنا حارتنا منذ حوالي 6 أشهر، وسلمنا الشقة لأصحابها، بعد أن ضيّقوا الخناق علينا برفع الإيجار دون سابق إنذار، وعندما صممنا على البقاء قطعوا الماء، ثم عبثوا بألواح الطاقة الشمسية، فاضطررنا للرحيل أنا وبناتي إلى شقة أختي القاطنة في منطقة الستين، في حين رجع زوجي إلى القرية (حيفان) عند أهله”. وواصلت قريبتي حديثها، والدموع تكاد أن تفر من عينيها، قائلة: للأسف سأعود إلى بيت أهلي في تعز. سنفارق صنعاء رغماً عنا. فيما تعقب قريبة أخرى: “صاحبتي تريد أن تستأجر شقة في نفس العمارة التي أسكن بها، ولكن صاحب الشقة رفع إيجارها من 50 ألف ريال إلى 80 ألفاً في الشهر، والأسوأ في الأمر أنه يريد مقدم 3 أشهر إيجار، ومؤخر 3 أشهر تأمين، وضمانة تجارية، رغم أنها ليست شقة مفروشة، وحالتها حالة”.

وتعلق صديقتي بسخرية: والله لو جابها لي بدون مقابل ما بسكن فيها، قد الحمامات والمطبخ بدون تسليك، ورائحة البيت عفنة، وجدرانها مصفرة، وبعض نوافذها مكسرة، وأرضياتها مشققة… الخ”. وتواصل: “والغريب أن عليها إقبالاً غير عادي. يا رحمتاه الناس مش لاقيين سكن”. وتعقب بالقول: “يمكن الحاجة الوحيدة المميزة فيها أن موقعها مناسب”.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح إيجار بعض الشقق بالدولار، فمثلاً إحدى صديقاتي دفعت إيجار شقة صغيرة 200 دولار، ومثلها 200 دولار أخرى للسمسار، وتعلق إحدى الحاضرات في العزاء بالقول: “والله قد إحنا أسوأ من النازحين، إحنا والعفش من شقة لشقة، وأحياناً نضطر إلى وضع العفش في أحد المخازن بإيجار، أو بيعه بأرخص الأسعار…”. كم من المواطنين الذين عانوا من أزمة السكن وارتفاع الإيجارات إلى حد كبير، بما لا يتناسب مع أوضاعهم المادية، وبخاصة موظفي الدولة الذين قطعت مرتباتهم، فمنهم من رحل إلى خارج اليمن بعد أن باع عفش البيت وما كان لديه من أرض في قريته، ومنهم من توفق في الخروج الآمن للعمل أو الدراسة، وهم قلة قليلة، وأغلبهم رحلوا في هجرة غير شرعية، وعانوا من ويلات ومخاطر السفر عبر البر أو البحر، والبعض منهم عجز عن الرحيل إلى خارج الوطن، وعجز عن دفع الإيجار، ولم يتمكن من سد رمقه، فمات في شقته جوعاً وكمداً وقهراً هو وعائلته.

ومنهم من انتحر، والكثير من المواطنين الذين يسكنون في مساكن بأحياء راقية، اضطروا مع انقطاع مرتباتهم أو فقدان وظائفهم أو خسارتهم في مجال عملهم الخاص، إلى الانتقال لمساكن في أحياء شعبية… وضاق بهم الحال، فعاد معظمهم إلى قراهم وبيوت آبائهم وأجدادهم، فبدأت الخلافات تدب بين الإخوة وأبناء العم بسبب ضيق المساكن واختلاف الأمزجة والطباع. وبالرغم من أن هناك حركة بناء دائمة أو هدم وإعادة بناء لعمارات بأكملها في كافة أنحاء مدينة صنعاء، إلا أن أزمة الإيجارات تزداد قساوة، حيث لا يوجد قانون يردع المؤجرين كي يتعاملوا بإنسانية، ويراعوا ظروف الناس.

ولذا فإن أزمة السكن هي أزمة الأزمات في اليمن، وهي ليست وليدة اللحظة، ولكنها ازدادت ضراوة في الآونة الأخيرة. فنجد الكثير من الشباب يؤجل الزواج من سنة إلى أخرى، ليس بسبب عدم قدرته على دفع الإيجار وحسب، وإنما أيضاً بسبب عدم الحصول على شقة مناسبة للسكن الآدمي. فلم يعد الأب يشترط على العريس المتقدم لابنته مهراً كبيراً وحسب، وإنما يسأله أولاً هل يمتلك شقة تمليك أم إيجار؟ وهل لديه دخل يمكنه من دفع الإيجار…؟ كما أن هناك أسراً عديدة سواء من النازحين أو غيرهم، يسكنون في دكاكين لا يوجد بها نوافذ، وتسكنها الرطوبة، ولا يوجد تهوية ولا مطبخ مستقل، فالشقة عبارة عن غرفة واحدة والمطبخ والأكل في الغرفة ذاتها، وحمام صغير متر في مترين كأنه قبر.

وبالرغم من التوجيهات والتعليمات التي أصدرتها حكومة الإنقاذ، والتي تؤكد فيها أنها ستقف ضد كل مؤجر يرفع الإيجار أو يحاول إخراج المستأجرين الذين لم يتمكنوا من دفع الإيجارات بسبب انقطاع رواتبهم، إلا أن ذلك لم يمنع المؤجرين من مضايقة المستأجرين بكل الوسائل الممكنة؛ بداية برفع الإيجار والمطالبة به قبل أن ينتهي الشهر، مروراً بقطع الماء والكهرباء وإغلاق سطح البيت، وانتهاءً بالتهديدات بالطرد من الشقة، وهو ما حدث لبعض المستأجرين، ومن أمثلة ذلك: تم اقتحام منزل الإيجار الذي يسكنه أحد المواطنين في جولة العمري بصنعاء، عن طريق قاضٍ تنفيذي من المحكمة، وترويع الأطفال والزوجة، وطردهم مع العفش إلى الشارع، في ظل غياب صاحب البيت.

ويحدث ذلك في ظل عدم وجود قانون إيجارات يلزم المؤجر بمراعاة المستأجر، ويحدد العلاقة القانونية بين المستأجر والمؤجر. ومع ذلك هناك قلة لا تعد من المؤجرين الذين يراعون أوضاع المستأجرين المادية، ويصبرون على تأخر الإيجار، وعندما يستلم المستأجر أي مبلغ من عمل ما أو من نصف الراتب كل 6 أشهر، يدفع للمؤجر نصف المبلغ الذي استلمه.

كما يقوم بعض المستأجرين بتقديم أية خدمات للمؤجرين مقابل أن يصبروا عليهم في تأخر الإيجارات، كأن يقوم البعض منهم بتدريس أولاد المؤجر، أو مساعدتهم في إنجاز بعض المعاملات، أو أي أعمال خاصة بالمؤجر. وقد تضطر بعض النساء المستأجرات لخدمة المؤجرين في الأعمال المنزلية كالطبخ والتنظيف. كما تضطر بعض المستأجرات اللواتي يعملن في مجال الخياطة لمساعدة أزواجهن في تحمل تكاليف الإيجارات والمعيشة بالخياطة المجانية لما تطلبه النساء المؤجرات (صاحبة أو مالكة البيت).

وهكذا تتعدد معاناة غالبية المستأجرين الذين يجاهدون طوال الشهر من أب وأم وبنات وأولاد، كي يوفروا إيجار الشقة وتكاليف المعيشة الضرورية من أكل وشرب وعلاج. فهناك الطالبة التي تدرس وتشتغل في مطعم أو مدرسة أو مستشفى أو استديو أو محل تجاري، أو أي أعمال خاصة.

وكثيراً ما يرفع المؤجرون الإيجارات حسب مزاجهم، أو حسب ارتفاع الدولار، ويجبرون المستأجرين على الالتزام أو الخروج من الشقة، ويعطونهم مهلاً محددة. وسيظل الرحيل الصامت والمعاناة تلاحق المواطنين في صنعاء طالما لا توجد أحزاب أو نقابات أو منظمات مجتمع مدني قادرة على الدفاع عنهم، وصون حقهم في السكن والعيش الكريم

الأكثر قراءة