المشاهد نت

توكل على بركة الله.. حكاية يهود اليمن

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

لا أذكر التاريخ بالضبط. لا اليوم ولا الشهر ولا السنة. كنا أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما أوفد تلفزيون صنعاء وصحيفة “٢٦ سبتمبر”، بعثة إعلامية لإجراء أحاديث مع يهود يمنيين من الذين تخلفوا في البلاد، ولم يغادروها إلى فلسطين.
لم يكن الدافع مهنيًا صرفًا، كان واضحًا أن أساسه توجيه صادر من أعلى سلطة في البلاد، بغرض إيصال رسالة للدول الغربية وللولايات المتحدة على وجه خاص، وعلى وجه أخص للوبي الصهيوني، بالنظر إلى تأثيره في صناعة القرار، وفي توجيه السياسة الخارجية الأمريكية.
محتوى الرسالة أن اليهود في اليمن يعيشون في ظروف عادية وطبيعية، وأنهم يتمتعون بكامل الحقوق القانونية، مثلهم مثل سائر المواطنين. مع أن هذا حال افتراضي لا يخفى عليهم هناك في الغرب، فإن غالبية اليمنيين يفتقدون الحماية القانونية في وجود طبقة مطلقة اليد لاغتصاب القانون وقهر الناس وأكل أموالهم بالباطل.
استدعى توجيه الرسالة ما كان يتعرض له اليهود من أذى حقيقي بعد الانتشار الواسع للمعاهد العلمية، وما استتبعه من توسع في نشاط الإخوان المسلمين، وزيادة تأثيرهم ودورهم في الحياة العامة. والإخوان، كما يعرف الناس، يتميزون بالفجور في الخصومة، وعندهم أن المختلفين معهم في الدين والسياسة محكوم عليهم أنهم كفار كفرًا بواحًا.

في اللقاءات الصحفية كان لا بد لليهود أن يتحاشوا مرارة الشكوى، وأن يتحدثوا بدلًا منها عن حياتهم الآمنة والكريمة، دون أن ينسوا تحميل الكلام إيحاءات تمحو ما سبق من وصف هناء العيش


والحال هكذا، فقد بات اليهود تحت طائلة تطرف مقيت. وتعددت مظاهر الإذلال من قبيح القول إلى شنيع الفعل، ومن هتك الأعراض إلى قطع الطريق وإحراق الممتلكات.
في اللقاءات الصحفية كان لا بد لليهود أن يتحاشوا مرارة الشكوى، وأن يتحدثوا بدلًا منها عن حياتهم الآمنة والكريمة، دون أن ينسوا تحميل الكلام إيحاءات تمحو ما سبق من وصف هناء العيش. هنا الألفاظ غير صريحة، لكن المعاني فصيحة. مثال ذلك ما قاله الحاخام في ريدة “يحيى يعيش”، بعد أن أنعم في الثناء على علاقة الجوار مع المسلمين، قال إنهم من أجل أن يستوثقوا من صحة الكلام، يقولون لمحدثهم “والكذاب يهودي”.
كان عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، هو الأطول في تاريخ اليمن القريب، لم يزد عليه في المدة سوى عهد الإمام يحيى حميد الدين، وكان هذا الأخير غافلًا، بل متواطئًا مع نشاط الحركة الصهيونية الدؤوب من أجل اغتصاب فلسطين. على الأقل فقد تواطأ بالسكوت عن هجرة اليهود اليمينيين إلى فلسطين، وقد بلغ عددهم 28 ألفًا عند اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وربما أنه لم يكن على اطلاع على أرقام الأفواج المتعاقبة من المهاجرين من يهود أوروبا، ولا من الدول العربية، ومن اليهود الشرقيين عامةً. كما لم يكن على علم كافٍ بحجم الأراضي التي تُشترى، والمستوطنات التي تُنشأ، والتنظيمات الإرهابية التي تتسلح وتتدرب، لكنه من غير شك كان يعرف وجود مؤامرة وحركة محمومة لتوطين اليهود في فلسطين، ومع ذلك فقد غض الطرف عن رحيل رعاياه من اليهود كي يشاركوا في الجريمة.
أما ابنه الإمام أحمد فقد تمت في عهده، وبعلمه، أكبر عملية ترحيل لليهود إلى فلسطين. كانت صفقة رخيصة قبض فيها الإمام 13 مليون جنيه إسترليني من الحكومة البريطانية.
جرت العملية التي أطلق عليها اسم “بساط الريح”، بعد قيام الكيان الغاصب، وشملت هجرة 50 إلى 52 ألفًا، جرى تجميعهم في عدن، ومنها طاروا إلى بروكسل، ثم إلى فلسطين.
في حوار مثير أجراه الأستاذ نبيل سيف الكميم، لصحيفة “الراية” القطرية، ونشر في ديسمبر 2006، مع أحد الذين شاركوا في ترتيب سفر اليهود، وهو تاجر من صنعاء اسمه “أحمد القريطي”، يتبين مدى استهانة الإمام الناصر لدين الله بالأرض المقدسة، ومدى خيانته للمبادئ، واشتراكه في جريمة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه.
وكان القريطي يتردد على عدن، لشراء وبيع البضائع، وهناك لقيه اثنان يعرفانه من يهود صنعاء سبق خروجهما إلى فلسطين، اصطحباه إلى مكتب الجمعية اليهودية بعدن، وعرضا عليه مهمة تجميع اليهود من مدن وقرى المملكة المتوكلية اليمنية، ونقلهم إلى عدن، لتتولى الجمعية، بالتنسيق مع الوكالة اليهودية، ترحيلهم إلى فلسطين.
اشترط القريطي موافقة الإمام، وأبرق إليه في تعز، وجاء رده: “توكل على بركة الله”. قال القريطي إنه سافر من عدن إلى تعز، وحمل للإمام هدية، وإن هذا أمر له بمرافقين وحراسة، ووجه نوابه في الألوية (المحافظات) بتسهيل مهمته.
كان القريطي يروي من ذاكرة يقظة رغم تخطيه المائة بثلاث سنوات.
قال إنه جمع حوالي 12 ألف يهودي من مختلف الأعمار.
قال إن آخرين تولوا جمع العدد الباقي، أحدهم التاجر الجبلي، وكيل الإمام في عدن.
في الزمن الجمهوري اختلف الأمر تمامًا، ارتفع مستوى الوعي والشعور القومي، واحتلت القضية الفلسطينية صميم اهتمامات الشعب اليمني، وبات مستحيلًا أن يمارس أي حاكم الخيانة سرًا وعلانية، على النحو الذي ذهب فيه الأئمة.
إن وضع يحيى في مقابل صالح، ينصرف إلى طول مدة الحكم وحدها، وإلا فإن الرئيس السابق تبنى القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، على منوال ما فعل أسلافه الجمهوريون، ثم إنه أمر بخروج شباب يمني كي يلتحق بالثورة الفلسطينية في لبنان. ولما اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان، واحتل بيروت، وأجبر الثوار الفلسطينيين على الرحيل، كانت صنعاء أحد ثلاثة مراسِ استقروا فيها.
لكن بعد اتفاقية أوسلو لمحت إشارات غزل ورسائل غرام بواسطة يهود يمنيين في أمريكا.

والأهم أنه جرى نقل رفات الشبزي إلى فلسطين. وكان الشبزي في الوجدان الشعبي اليمنى أحد الأولياء الصالحين، يتبرك كثير من الناس به، ويزورون قبره في رأس حارة السواني بتعز


أيامئذ ظهرت المغنية اليهودية المنحدرة من مدينة إب “عفراء هزاع”؛ واستقبلت صنعاء وفدًا سياحيًا من الجالية اليهودية اليمينية في أمريكا، برئاسة “موسى الشرعبي”.
وموسى الشرعبي بالمناسبة من قاع اليهود في صنعاء، وليس من شرعب، كما قد يتبادر إلى الذهن.
والأهم أنه جرى نقل رفات الشبزي إلى فلسطين. وكان الشبزي في الوجدان الشعبي اليمنى أحد الأولياء الصالحين، يتبرك كثير من الناس به، ويزورون قبره في رأس حارة السواني بتعز.
ولقد احتل هذه المكانة عند المسلمين بتأثير تقدير اليهود له كواحد من شعرائهم الكبار.
ذلك طرف من خيط بين خيوط كثيرة تجمعت في تلك الحقبة التي وضعت فيها الولايات المتحدة يدها الثقيلة في ظهور ورقاب الأنظمة في العالمين الثاني والثالث، لاستنبات الديمقراطية في الأراضي البور.
على أن بعض أسوأ ما خرج من اليمن في ذلك الوقت، تم على يد “ياسر عرفات”، فقد سبق وأهداه الرئيس صالح نسخة قديمة نادرة من التوراة، كان يضمها المتحف الوطني بتعز، فأهداها بدوره رئيس وزراء الاحتلال.
لسوف تلحقها نسخة ثانية، قديمة ونادرة.
فمع تقدم حركة أنصار الله الحوثية إلى واجهة المسرح السياسي، استثمر العداء لإسرائيل والسياسة الأمريكية المناصرة لها، برفع الشعار الذي ابتُدع في إيران، الغاضب والداعي بالموت لأمريكا وإسرائيل، اشتدت المضايقات للبقية الباقية من اليهود، فخرجوا من ديارهم في صعدة وريدة وخارف.
هنالك هيأت الحكومة لهم المقام في المدينة السياحية بصنعاء، حتى إذا دخلها الحوثيون جرى ترحيلهم إلى فلسطين المحتلة.
وفي تل أبيب ظهر “نتنياهو” يستقبلهم، ويتسلم النسخة النادرة الثانية من التوراة.

الأكثر قراءة