المشاهد نت

مرحلة التهديدات البحرية

مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب وباحث في الشؤون السياسية

تصاعدت منذ فترة أعداد الحوادث في البحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب، والتي تستهدف مصالح دول الإقليم المتنافسة والمتصارعة. لكن اللافت فيها هو أن تتحول أصابع الاتهام إلى اليمن، سواء المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثي أو مناطق تحت سيطرة القوات المناوئة له.
أرغب في تناول هذا الموضوع بطريقة تنتمي إلى فن التعليم أكثر من التحليل السياسي، وذلك من خلال جملة أسئلة:
إلى أين يريد الحوثي الذهاب في مناوراته أو مغامراته؟
بلغ الحوثي -ضمن أدوات إيران في التهديد والردع- أعلى كعبه في تهديد المصالح الإقليمية برًا باستهداف لؤلؤة النفط السعودي مرارًا -دون استهداف الإمارات، وهي الشريك الثاني في التحالف العربي العسكري لاستعادة الشرعية في اليمن، وذات الأداء العسكري الفاعل والمتميز- ولم يجن تحولًا استراتيجيًا مأمولًا، كالاعتراف به، وإنجاز صفقة سياسية مباشرة مع السعودية، وإقصاء الشرعية كمفهوم وأفراد. لذا فإن التهديدات القادمة ستتركز على البحر لاتصالها بالمصالح الدولية، سيما والمعارك البرية في محصلتها محلية الطابع، وتدريجيًا أبعدت السعودية عن نفسها صورة البلد الغني المعتدي على بلد فقير، كما درج الحديث تعسفًا عن الحرب في اليمن.


لماذا الانتقال من البر إلى البحر؟


الحرب البرية شأنها صغير، ورغم فداحة الحرب والدمار المادي والنفسي والأزمة الإنسانية المتفاقمة، فإنها ليست أكثر من “زوبعة في فنجان”. وكشفت بعد سنوات سبع محدودية تأثيرها على الاقتصاد العالمي، وعلى إمدادات النفط وأسعاره، بل على وتيرة التنمية في البلدان المعنية: فاعلًا ومفعولًا به.
تمادي الحرب إلى البحر -وقد بدأت جماعة الحوثي بتدشينها في هجومها على سفينة مدنية سعودية قبل أيام- خصوصًا في البحر الأحمر، لا يخرج عن سياسة التركيع المنتهجة إيرانيًا أولًا على السعودية حتى تقبل بنفوذ إيران في المنطقة، وتستسلم لمنطقها، وثانيًا للعالم أجمع، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، لتقبل بدخول إيران في نادى الأقوياء نوويًا.
لكن إضرام النار في البحر الأحمر هو لتقليص خيارات دول الخليج في إيجاد منافذ بحرية آمنة تتجاوز عقدة مضيق هرمز وتهديدات إيران بإغلاقه، لتصبح المنطقة من مضيق هرمز وحتى قناة السويس كلها غير آمنة.


هل هناك تخادم إيراني حوثي؟ ومن المستفيد؟


من منظور يمني لا معنى لهذه التهديدات إلا خدمة لإيران أولًا، ومن ثم لتابعيها في المنطقة. الحوثي نافع جدًا لإيران لتحقيق هدفها هذا في تغيير ميدان الاضطراب والمواجهة بحرًا حتى تنزاح المعركة خارج المياه الإقليمية الإيرانية، وتصل إلى مجال استراتيجي إيراني هو البحر الأحمر. والحوثي سعيد بهذا الوضع الذي يحقق له وهم مجابهة الأقوياء والكبار، دون اكتراث لمصلحة اليمن والإقليم.


من المستهدَف؟


استمرار الصراع في الداخل اليمني البري لا يزعج أحدًا غير اليمنيين أنفسهم، بما يسببه من مآسٍ ودمار وتعطيل للتنمية، إذا لم يكن نكوصًا كليًا عنها، وعودة إلى الظلامية والظلام. وهذه المعارك الاستنزافية للقوى المحلية المتحاربة، مع تأثير محدود، وتحت السيطرة على المملكة العربية السعودية، بعد أن اجتازت نفسيًا صدمة التعرض للضرب والقصف والاستهداف.
نعم، لم تتم استعادة الدولة، ولا عودة الحكومة الشرعية وتحقيق أنموذج ناجح في مناطق الشرعية، لكن بالمقابل لم يتمكن الحوثي من انتزاع الاعتراف والحضور الإقليميين والدوليين المطلوبين. عمليًا، مكاسبه محدودة وهشة في الوقت الحاضر، وبقاؤه يقدم خدمة جزيلة لإيران أكثر مما ينتفع هو بتضحياته الجسيمة في الأرواح والمواد. لقد تضاءلت مساحة سيطرته في اليمن قياسًا بالعام 2015، وفقد مواقع استراتيجية هامة: عدن وشبوة وتعز، ولم يتمكن من السيطرة على منابع النفط، وسيطرته على موانئ شمال البحر الأحمر يمنيًا تخضع لسيطرة خارجية كبيرة، وتحت تهديد قوات عسكرية محلية على أبواب ميناء الحديدة.

لم تتم استعادة الدولة، ولا عودة الحكومة الشرعية وتحقيق أنموذج ناجح في مناطق الشرعية، لكن بالمقابل لم يتمكن الحوثي من انتزاع الاعتراف والحضور الإقليميين والدوليين المطلوبين. عمليًا، مكاسبه محدودة وهشة في الوقت الحاضر، وبقاؤه يقدم خدمة جزيلة لإيران أكثر مما ينتفع هو بتضحياته الجسيمة.


لذا فإن نقل الصراع إلى البحر، وجعله ميدان لي أذرع يخدم إيران أولًا كورقة سياسية رابحة في معركتها التفاوضية الشاقة مع الغرب في سبيل انتزاع اعتراف بهيمنتها الإقليمية، والوصول إلى قدرات نووية، وإن كان يمنيًا هذا التهديد لا يعمل إلا على تعميق المأساة، وتحويل البلاد إلى منصة تهديد دولية.
وهو إذ يستهدف مصالح المحور الجديد المتشكل إقليميًا لمواجهة إيران، وأقصد بعض الدول الخليجية وإسرائيل، فإنه يستهدف مصالح إسرائيل الناشئة، وعربيًا بعد مصالح دول الخليج يستهدف مصالح مصر وموقعها. إذن، هل يمهد لمواجهة محتومة بين مصر وإيران؟
ما لا يريد الحوثي الإقرار به هو أن شرعيته ليست في قدرته على إيذاء دول الإقليم والعالم، سيما وهو لا يملك من عوامل القوة إلا التي تتيح له الإيذاء وإحداث الاضطراب، وليس السيطرة على عوامل القوة. وسيظل رهينة لإمداد وتمويل أطراف خارجية عسكريًا واقتصاديًا. لكن شرعيته تنبع من قدرته على تحقيق مصالحة وطنية وتوافق سياسي، وهو يعجز كليًا عن تحقيق هذا الشرط، بسبب طبعه الإقصائي والطائفي.
كل ما سيحصل، اعتماد المعارك القادمة على الطائرات المسيرة والقوارب المفخخة، لافتقار القوى المحلية إلى قدرات بحرية حقيقية لإشعال حرب بحرية بالمعنى التقليدي، والسيطرة المادية والنارية، ولكن مع إغلاق اليمن على نفسها، وجعلها مساحة اقتتال داخلية بالعمل على الحد من أن تتمادى التهديدات إلى البحر بعد تأمين الساحل وتعزيز الحضور العسكري الدولي في البحر. أي عسكرة مكثفة لمياه البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، حتى يفتر المتقاتلون اليمنيون.

الأكثر قراءة