المشاهد نت

فقر أكثر من الحرب

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمتي

بات السؤال اليوم: كيف يمكن لليمنيين الخروج من حرب خلفت واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم؟ لكن بلدًا يكتظ بالتدخلات الإقليمية والدولية، وتتقاسمه جماعات مسلحة، وتتعمق فيه الشقاقات، فإن مصيره يمتلكه الآخرون.
لم تحط الحرب من شأن اليمن فقط، إنما تركت مجتمعًا هشًا دون إرادة، يستنزفه الفقر والقهر، وتحتجزه مشاريع الإحسان الأممية. وهكذا تتوزع مصائره بين عدة مزادات، تختلط فيها الحرب بالسياسة والتجارة بالألم. وكما لو كان قطار السنوات السبع الفائتة، انطلاقة اقتلعت ذوات اليمنيين، وأعمت بصائرهم، فتشابهت المنافع مع المضار، وكلما تكالبت عليهم الويلات بحثوا عن الخلاص في أسباب نوائبهم.
والجلي، أن الضعف يمتثل للارتهان، وبهكذا موقف يسهل استعباد المجتمعات. على أن اليمن وجدت نفسها في معادلة معقدة حصرت طموح شعبها في حدود الفزع من الفناء، وأثارت حوله مقارنات ضيقة، بكونه في تلك المنطقة يشهد وضعًا أمنيًا أفضل مما هو في المنطقة التي يهيمن عليها طرف آخر. ويخضع مثل هذا الانطباع لعُزلة أحاطت اليمن بالعالم الخارجي، وهو طابع متجذر لدى اليمنيين حتى على الصعيد الداخلي، بحيث تتشكل عُزلة داخلية بين المجتمعات المحلية، كعائق للاندماج.
غير أن ظروف الحرب، ضاعفت من العُزلة الداخلية، ونتج عنها عوائق مصطنعة من نقاط التفتيش الأمنية، وتغير الطرق، إضافة إلى تهالكها، نتج عنها تباعد بين المدن، وتوتر. وبذلك تهيأ المجال لحدوث انفصالات محلية، مسنودة بمربعات تخضع لحكم ذاتي تحت فصيل مسلح أو تكوين سياسي. بينما تحضر آلة الحرب كوسيلة وحيدة للتوحيد أو تعزيز الانفصالات.
من جهة أخرى، يبدو الفقر هو الموحد لشريحة واسعة من اليمنيين، في مواجهة فئات أو أقلية تسيطر على جزء واسع من التجارة والأتاوات. وهذا التعارض لا يمكن النظر له اليوم وفق النظرة الاشتراكية التقليدية، بمعنى أنه صراع بين أغنياء وفقراء، إذ إن ذلك المفهوم يقوم أساسًا على استغلال طبقي كرسته الرأسمالية، حيث تتكدس الأموال لدى القلة المالكة على حساب الأكثرية العاملة. وهي جوانب نجحت بعض بلدان الرفاه الرأسمالية في تحقيق ضمان اجتماعي واسع، قلصت شريحة الفقراء. بينما في اليمن، تكدست الأموال لدى فئات جديدة ازدهرت بشكل مباشر من ضلوعها في النزاع، وما يحيطها من مقربين أو متعاونين. فهناك أمراء وتجار حرب، لكن الأمراء أحاطوا أنفسهم بامتيازات مكنتهم من الاستيلاء على ممتلكات ليست لهم، أو وضع أيديهم على أتاوات يتم فرضها على طبقة التجار التقليديين.

ورغم الأداء المزري للمنظمات الدولية وما شابه من فساد، وتدخل بعض الجماعات المسلحة في عملها، إلا أنها أسهمت في توفير دورة اقتصادية مهمة خلال سنوات الحرب، بما فيه توفير العملة الصعبة.


وفي وقت تسبب النزاع في فقدان مئات الآلاف أعمالهم، أو جزءًا كبيرًا من مداخيلهم، كما تضاءلت القدرة الشرائية نتيجة انخفاض قيمة العملة، نرى أن تلك الفئات تراكم ثروات. وتأتي حركة الحرب بالتوازي مع حركة من الأسفل إلى الأعلى نتيجة انتفاع طبقة محدثي النعمة من الحرب، وما يتبعها من متغيرات في القيم. لكنها حركة ارتجاجية، وضعت معظم اليمنيين في الفقر، وهذا الامتياز العقابي يلائم نفسية تلك الطبقة محدثة النعمة.
وتلك الصورة المُرعبة، تتداولها تقارير الأمم المتحدة، حدًا لا يمكن التأكد من دقة أرقامه، مع ذلك، لا تخلو من الواقعية. وبحسب المبعوث الأممي السابق مارتن غريفيث، صرح مؤخرًا أن 20 مليون يمني يواجهون الفقر، و5 ملايين آخرين مهددون بذلك. أي أن ثلثي اليمنيين باتوا فقراء. وهو ما أشار إليه مسؤول أممي في اليمن، معلنًا أن الأمم المتحدة ستقلص حجم أعمالها في اليمن منذ الشهر الجاري، نتيجة انخفاض المساعدات الدولية. ومع أن تلك النسبة عامل تحفيز لزيادة المساعدات، إلا أن تبعات الانكماش الاقتصادي الناتج عن وباء كورونا، أدت إلى خفض المساعدات التي وصلت عام 2017 إلى 3 مليارات دولار، وإلى 1.2 مليار دولار خلال العام الجاري.
ورغم الأداء المزري للمنظمات الدولية وما شابه من فساد، وتدخل بعض الجماعات المسلحة في عملها، إلا أنها أسهمت في توفير دورة اقتصادية مهمة خلال سنوات الحرب، بما فيه توفير العملة الصعبة.
وبهكذا ظرف، لن تتأثر طبقة أمراء الحرب، لكنها ستدفع طبقة منتفعين صغار، إلى جحيم البطالة، وكذلك أولئك الذين بالكاد يحصلون على ما يسد رمقهم من المساعدات. واقتصاد الحرب، حتى في شقه الإنساني، لا يحقق بيئة آمنة، ومحفوف بالمتغيرات. وتبدو اليمن مستندة إلى سطح رخو، أساسه الاتكال على ما يمكن للآخرين تقديمه من مساعدات. وهذا عامل لا يشمل طبقة النفوذ الجديدة، التي تمتلك مسلحين وترسانة عسكرية، واقتصادًا ذاتيًا يديرونه، إضافة إلى ما تحوزه تلك الأطراف من دعم حلفائها الخارجيين.
ولعل الأمر يثير معادلة هرمية لما يعانيه اليمن من مصادر استلاب، مترابطة بين الداخل والخارج. لكن الفزع هو الغالب على الفئات الضعيفة، التي يجبر الكثير من أفرادها على حمل السلاح، باعتباره المهنة الأكثر طلبًا في سوق العمل اليمني. وبالكاد توفر تلك المهنة ما يسد الرمق. ولا يعني أن حاملي السلاح لا يذهبون بدوافع عقائدية، لكن هناك اقتصادًا.
إذن، تلك العلاقة بين أكثرية تعاني من الفقر، وتلك التي تهيمن على اقتصاد الحرب، لا يمكن لها التطور كمواجهة مباشرة، على الأقل في الوقت الراهن، أو القريب.
وبالنظر إلى تلك الفجوة، تستحدث السياسات الدولية مفهوم الأقليات وفق نسيج عصبوي، باعتبارها مفردة تمس طائفة، أو أي شكل من العصبيات. وهو التقسيم الذي يحيل المجتمعات إلى فئات متصارعة لدوافع عصبوية.
ومن المنظور الرأسمالي، تبقى تلك الدوافع، أفضل من أي صراع يتسم ببعد اقتصادي، وإن تعامل معه كعينة ضمن عينات أخرى، لكنه مع الوقت يهمشه، مبقيًا على كونه امتيازًا للأغنى، يهيئه موضوع الإحسان.
صحيح أن مظهر الصراع مثقل بالاستلابات الهووية، لكن محفزاته الأعمق اقتصادية. وترجيح تلك عن تلك، يغفل المشكل الحقيقي لليمنيين، بحيث تبقى طبقة المنتفعين قادرة على تحريك الصراع وفق أهوائها، وتسيير قطيع من الجمهور ضد مصلحته.
لكن محاضر السياسة تفرط بواقعية مُختلة، وتعيد بناء الواقع السياسي في إطار القوى الفاعلة. صحيح أن السياسة ليست شأنًا أخلاقيًا، إنما واقعية صرفة. ولهذا السبب فإن هناك واقعية رؤيوية تجعله يتصل بالأخلاق من باب أن هذا الأصلح، كما يترتب على الأصلح في ظروف أن تستبعد الأخلاق. والأصلح بالنسبة لليمنيين ربما حرب لم تحدث بعد.
من وجهة نظر ابن خلدون؛ إذا عم الفساد في الدولة، فإن أولى مراحل الإصلاح هي الفوضى. ويمكن لتلك العبارة أن تُمثل حقيقة ما جرى، فخلال حكم صالح عم الفساد في الدولة، ونتج عنه تصدع الدولة، لكن هل الفوضى التي نعيشها اليوم هي أولى مراحل الإصلاح؟
من إحدى الزوايا، أرى أن ذلك ممكن، عدا أنه سيتطلب وقتًا طويلًا، وربما يكون متصلًا بفوضى أوسع، يساعد على نزوح التدخلات الخارجية المباشرة في اليمن.
فتلك التدخلات لا يمكن التعويل عليها بأنها تسعى إلى مخرج ينقل اليمن من هذا الوضع. حتى في الجانب الإنساني، فالمحسن غايته أن يبقي الفقير مقيدًا بإحسانه، وذلك يرمي لجعله أبأس حالًا. والسعودية التي تدخلت في حرب اليمن، وتظهر بثوب المحسن، تهدد العمالة اليمنية، وتضيق عليهم بصورة مستمرة، وإخراجهم يعني تجويع المتبقي من اليمنيين، باستثناء أمراء الحرب.

الأكثر قراءة