المشاهد نت

ما بعد مأرب

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

لا جديد في مساعي السلام في اليمن.
الحرب هي المقيم المهيمن والمتجبر، ومعها كل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وحتى الثقافية.
لا شيء يحمله المبعوث الجديد للأمم المتحدة السويدي “هانز جروندبرج”، يختلف عما حمله الذين جاؤوا قبله. رحلات مكوكية إلى العواصم المتصلة في الصراع، ومكتب في عمان، وإحاطة لمجلس الأمن، ولقاء بالناشطات. الفتح الوحيد هو زيارته طهران، مع أن صوتها كان مسموعًا من مسقط.
كذلك يتجلى أن الحرب هي المقيم المهيمن والمتجبر. وفيها يعلو صوت الحوثي المتغطرس والمتكبر، بينما على الناصية الأخرى تتخذ الأصوات لهجة استجداء السلام وطلب الرحمة.
إن نظرة سريعة لمناطق الاحتكاك بين القوى المتحاربة، تبين أن القوات الحكومية في حالة جمود واسترخاء، أو في حالة دفاع وتقهقر. وليست هناك على الإطلاق جبهة واحدة تحاول أن تتقدم وتخترق دفاعات القوة المقابلة.
ولا اعتراض على الدفاع حين لا يكون أمام القيادة الميدانية أمل في الهجوم والاقتحام والتقدم، بل إن الدفاع قد يكون خير وسيلة للهجوم على عكس المقولة القديمة. فقد رافق تطور التكنولوجيا والعتاد العسكري تطور مماثل في علم الحرب وفي فنونها، وزادت الخبرات الميدانية التي ألقت بها الحروب المتعاقبة، إلى تأكيد اللجوء إلى الدفاع احيانًا عندما يكون الهجوم لازمًا. ففي الحروب عادة ما تبلغ خسارة القوة المهاجمة إلى المتحصنة في الدفاع ثلاثة إلى واحد. والمهم ألا تقاتل القوات المدافعة وعيونها في ظهورها. بمعنى أنها تقف ثابتةً لا تتقهقر ولا تولي الأدبار، حتى يتبين للقائد الميداني وأركان حربه ومدير عملياته أن العدو بات في حالة إنهاك وفقدان توازن، فيتخذ قراره بشن الهجوم.

الواضح للعيان الآن سيطرة الحوثي على محافظات الجمهورية العربية اليمنية السابقة، باستثناءات قليلة، مع اختراقات في الضالع وشبوة. ومنذ فبراير الماضي وجه الحوثي آلته الحربية نحو مأرب، باعتبارها العاصمة الحقيقية للحكومة المعترف بها، كما لوجود حقول النفط.


استخدم هذا التكتيك الجنرال (الفيلد مارشال في ما بعد) “مونتجمري”، في العلمين، خلال الحرب العظمى الثانية، 1942. في الواقع لم ينتصر مونتجمري على الألماني روميل، ثعلب الصحراء، كما استقر لدى المؤرخين. كان روميل على سفر، والذي يقود المعركة هو نائبه، وفي أول يوم للهجوم الألماني، أحصى القائد خسائره، ومات من الحسرة، وتولى الذي يليه في المرتبه القيادة، ووقع أسيرًا في اليوم الثاني في أيدي القوات البريطانية.
روى مونتجمري أن وينستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، أبرق إليه (بالشفرة طبعًا) يلومه على التزام الدفاع، ويحثه على أن يتقدم ويهاجم، وأنه رد لتشرشل بأن عليه أن يلتفت لعمله في رئاسة الوزراء، وأن يتركه لعمله في ميدان المعركة. وعندما رجع روميل إلى العلمين، كان هو الذي فهم خطة مونتجمري، ولكن بعد فوات الأوان.
وإذن، فليست المشكلة في الدفاع والانسحاب التكتيكي، إذا صدقت القيادات العسكرية وأخلصت. المشكلة الحقيقية أنهم يقاتلون والهزيمة في أذهانهم.


إن القوات الحكومية في اليمن لا تدافع في إطار خطة للهجوم، ولا تنسحب انسحابات تكتيكية بحسب ما تفيد قياداتها عند كل تقهقر، وإنما هي في الحقيقة تولي مذعورة هاربة، أو تنسحب راضية بائعة.
والواضح للعيان الآن سيطرة الحوثي على محافظات الجمهورية العربية اليمنية السابقة، باستثناءات قليلة، مع اختراقات في الضالع وشبوة. ومنذ فبراير الماضي وجه الحوثي آلته الحربية نحو مأرب، باعتبارها العاصمة الحقيقية للحكومة المعترف بها، كما لوجود حقول النفط. وفي طريقه استكمل السيطرة على محافظة البيضاء ومعظم الجوف، وتقدم في مأرب، وتوغل في شبوة، وبذلك أكمل الطوق على المدينة.
وفي هذه الحرب الممتدة طوال 9 أشهر، تحملت قبائل مأرب عبء الدفاع، نيابة عن القوات العسكرية النظامية، واضطلع طيران التحالف بطلعات كثيفة لتعويق تقدم قوات الحوثيين. غير أنه في المعارك لا يعول على الطيران إلا بمقدار ما يمهد للمشاة التقدم على الأرض. وبهذا تتأكد أهمية دوره في الهجوم أكثر مما هو في الدفاع. إن فاعليته مرهونة بمدى كفاءة القوات البرية.

في هذه الحرب الممتدة طوال 9 أشهر، تحملت قبائل مأرب عبء الدفاع، نيابة عن القوات العسكرية النظامية، واضطلع طيران التحالف بطلعات كثيفة لتعويق تقدم قوات الحوثيين



لا شك أن الحوثي لن يتردد عن اقتحام المدينة بالقوة إذا لزم الأمر، مهما بلغ من الخراب ومن الضحايا البشرية. سوف يفعل ذلك إذ ما استبدت به شهوة الانتقام، ومن غيرها، وبالحسابات العسكرية البحتة، سيكون عليه أن يكتفي بالحصار إلى أن تستسلم وتسلم. ولعله يستمتع بالحصار والتعذيب البطيء للمدينة وأهلها.
وماذا بعد مأرب؟
هل يتابع الحوثي السير نحو الجنوب والشرق للاستيلاء على حقول النفط في شبوة وحضرموت، أم يتوقف هناك، ويلتفت لقوات طارق صالح في الساحل الغربي؟
لأسباب عديدة، سوف يتوجه -أغلب الظن- إلى الساحل.
فهو لا يتحمل بقاء تلك القوة المعادية قريبًا من متنفسه على البحر في موانئ الحديدة الثلاثة.
والسبب الثاني أن هذه القوة على تدريبها وتنظيمها وعتادها الحديث، تحتل حيزًا محدودًا من الأرض، يفقدها عنصر المناورة والقدرة على الكر والفر، ثم إنها لا تأمن جبهتها الخلفية، لأن ظهرها مكشوف ومعرض للطعن من قبل القوات الحكومية التي تقودها عناصر إخوانية في تعز.
وهناك سبب ثالث يتعلق بموقف القوات الدولية التي تدير الأزمة في اليمن من زمن سابق على الحرب وعلى الأحداث التي اندلعت في 2011، وأدت إلى سقوط نظام الرئيس علي عبدالله صالح.
إن موقف بريطانيا هو الأساس. وبريطانيا لم تنسَ أن اليمنيين أخرجوها من عدن بقوة السلاح. في تلك السنوات من ستينيات القرن الماضي، كانت إحدى القوى الرئيسية الداعمة للملكيين في حربهم على النظام الجمهوري. ومن غير أن نستبعد دور مصر في الصراع ذلك الوقت، يمكن القول بأن حربًا غير مباشرة نشبت بين الجمهورية البازغة في صنعاء، والاستعمار الآفل في عدن.
كانت الجمهورية تدعم وتسلح وتمول الثوار في الجنوب، وكان الاستعمار يدعم ويسلح ويمول الملكيين في الشمال. وبينما ينتقل السلاح من تعز وإب إلى لحج والضالع، ينتقل السلاح الآخر عبر شريف بيحان إلى مأرب والجوف.
إن بريطانيا لا تنتقم فقط، وإنما تحيي التحالف الذي كان من بيت حميد الدين إلى الحوثيين، ومن الإمام المنصور بالله إلى أنصار الله.
أظن من هنا أن بريطانيا التي تمسك بالملف اليمني، لن توافق على تمدد الحوثي إلى الجنوب، حيث ذكرياتها القديمة ومصالحها القادمة.
لا. لا أظن، ولكنني أقطع.
وإنما أظن أنه ليس أمام قيادة قوات حراس الجمهورية غير أن تبادر ولا تنتظر. إن عليها أن تزحف إلى الحديدة، إلا إذا كانت تمتلك خطة دفاعية وقوات كافية وقادرة على دحر موجات الهجوم التي ستتعرض لها بالتعاقب، مع عدم نسيان أنها ستقاتل مكشوفة الظهر.
ولكن هل تستطيع أن تقرر بمفردها، وبدون إشارة من القيادة العليا التي أمرتها من قبل بالتوقف بعد أن بلغت أبواب الحديدة في 2018؟
وإذا ما قررت، فهل تستطيع بعد أن تغيرت الموازين؟
وإذا استطاعت، فهل تسكت بريطانيا؟

بريطانيا مرة ثانية؟

وثالثة. لكن أن تهزم من بريطانيا خير من أن تنتظر الموت في مواقعها.

وماذا عن الشرعية؟

بصراحة لا أدري.

والجنوب؟

إنها ساحة الحرب الطويلة المقبلة.
ومن أسف أنني لم أجد سبيلًا للتفاؤل.

الأكثر قراءة