المشاهد نت

إعادة تعريف مهمة المبعوث الأممي

أيمن نبيل

أيمن نبيل

كاتب يمني مقيم في ألمانيا

تاريخ اليمن مع المبعوثين الأمميين لا يبعث على التفاؤل، ولكن تجربة كل من جمال بنعمر ومارتن غريفيث تحديدًا، تزيد طين التشاؤم بلّة؛ سلوكهما لم يكن سلبيًا مستسلمًا تمامًا لموازين القوى فحسب، كما هو شأن المبعوثين الأمميين عمومًا، بل كانت لديهما تصورات معادية موضوعيًا لبناء الدولة في اليمن، وضغطا بكل قوّتهما لتنفيذها، مما جعلهما أقرب إلى طرف في الصراع الدائر منه إلى وسيط لحله، وكان هذا واضحًا أكثر عند بنعمر الذي ضغط بكل قوته لشرعنة إسقاط صنعاء على يد تحالف الحوثيين وصالح، في سبتمبر 2014، ثم تطبيع المجتمع السياسي مع الإعلان الدستوري للحوثيين في الـ6 من فبراير 2015، وكاد ينفذ كل تصوراته لولا دخول السعودية في الحرب في مارس من العام نفسه.
أما جريفيث فكرس نفسه طرفًا في الحرب الدائرة، عبر مواصلة سياسة بنعمر عمومًا، وتكريسها أكثر عبر خلق حلقات اجتماعية يمنية ضيقة عبر أموال الدعم والمنح، تساند رؤاه وتضطلع بالدعاية له ولها.
هذان المبعوثان فشلا في نهاية المطاف في مهمتهما الرئيسة، وهي تأمين انتقال السلطة وإيقاف الحرب، ولكن في طريقهما إلى الفشل زرعا ألغامًا، وخلقا عراقيل كثيرة في المجال العام، ستعاني منها اليمن طويلًا، ولكي يحقق المبعوث الأممي الجديد شيئًا من النجاح، عليه الاستفادة من تجربة سلفيه.
علينا وعلى السيد هانز غروندبرغ إدراك موقعه في خريطة القوى وحدود حركته، وبهذا يمكن إعادة تعريف مهمته على المستوى العملي، مع بقاء توصيفها الرسمي على حاله: إيقاف الحرب في اليمن. باستثناء بنعمر قبل مارس 2015، لم يمتلك أي مبعوث أممي في السنوات الـ10 الفائتة، قوة حقيقية تمكنه من فرض تصوراته على أطراف الحرب في اليمن، وحتى غريفيث لم يحقق “نجاح” اتفاق ستوكهولم إلا بسبب قضية اغتيال جمال خاشقجي، والضغط الدولي غير المسبوق على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لكي يدفع ثمن خطئه الفادح (ونكاية في حليفه الأهم دونالد ترمب)، وتقرر أن يدفع اليمنيون الثمن في ذلك الاتفاق. عدا هذا الظرف الاستثنائي، لم ينجح غريفيث في تحقيق اختراق سياسي يُذكر، كما أن كل مبعوثي العشرية الماضية، عجزوا عن الضغط على الحوثيين، وكانت ضغوطهم تنجح إلى حد معين مع الحكومة وأحزاب اللقاء المشترك والمملكة السعودية، أما الحوثيون ووراءهم إيران فمتحررون إلى حد بعيد -على الأقل حتى الآن- من تلك الضغوط.

إن مهمة إيقاف الحرب في اليمن يجب ألا تكون أولوية المبعوث الأممي، لأنها مسألة تخضع لسياقات معقدة لا يمتلك فيها قوة وازنة


بالإضافة إلى ذلك، لا يمتلك مكتب المبعوث الأممي موارد مالية كبيرة تمكنه من إنجاز مشاريع أو فرض خطوات كبيرة؛ لنتذكر أن موازنة الأمم المتحدة بقضها وقضيضها لعام 2021، بلغت 3.231 مليار دولار، كما أن فساد المنظمات الدولية الفاحش في اليمن، الذي كشفت عن نزر منه تقارير وتحقيقات صحفية مختلفة، بعد حملة شعبية طالبت بالمساءلة المالية وشفافية المؤسسات الدولية في اليمن، وتغافل السيد مارتن غريفيث وإدارة الأمم المتحدة عن تدارك الأمر بإصلاح السياسة المالية لهذه المنظمات، وتقويم تورطها السياسي مع المليشيات، انعكس على حجم المساعدات والمنح المقدمة للمنظمات الدولية العاملة في اليمن، التي انخفضت بوضوح مؤخرًا مقارنةً بالمنح التي قُدمت في السنوات الفائتة.
باستحضار هذه الحقائق، يمكن القول إن مهمة إيقاف الحرب في اليمن يجب ألا تكون أولوية المبعوث الأممي، لأنها مسألة تخضع لسياقات معقدة لا يمتلك فيها قوة وازنة. يمكنه العمل عليها التزامًا بتوصيف مهمته الرسمي، وانتظارًا للظروف الدولية الملائمة، ولكن تركيز جهوده عليها هو استهلاك لطاقة يمكن استخدامها في تحقيق نجاحات في الشأن اليمني. مهمة المبعوث الآن هي المساهمة في تخفيف آثار الحرب، وتحضير المجتمع ومؤسسات الدولة لـ”مشروع سلام” حقيقي ومنصف، وأعتقد أن قوة مكتب المبعوث قادرة على ممارسة ضغط وتحقيق تقدم في هذه المساحة. يمكن أن نذكر هنا 5 محاور رئيسية تشكل ميدانًا واحدًا: مرتبات الموظفين، استقرار العملة، فك حصار الحوثيين لتعز من الجهة الشرقية، المساعدة في تشغيل بعض الجامعات أو بناء كليات صغيرة حيوية (مثل كليات الطب)، والمشاركة في إنقاذ النظام الصحي.

العمل الإنساني مختزلًا في السلال الغذائية ومخيمات النازحين، ليس مهمة المبعوث، ولكن إصلاح سياسة العمل الإنساني ذاتها، مهمة أساسية في حال أراد تحقيق تقدم في محاور أخرى


العمل الإنساني جوهره سياسي، خصوصًا في الحروب، والمحاور المذكورة أعلاه هي سياسية قطعًا، ولكن إمكانية تحقيق نجاح بشأنها تصدر عن أن التقدم فيها لا يغير من التوازنات على الأرض؛ حتى أكثر هذه القضايا صعوبة، وهي فتح طريق الحوبان في تعز، لا يغير من توازنات السيطرة على المدينة، وإن كان سيضعف الهدف السياسي من الحصار، وهو إزهاق معنويات أهل المدينة، وإضعاف حركة التنقل بين صنعاء وتعز لعرقلة مغادرة رأس المال التعزي من صنعاء من جهة، وعرقلة تدفق أبناء مدينة تعز ذات الكثافة السكانية العالية والحياة الحزبية النشطة، إلى صنعاء من جهة أخرى.
العمل الإنساني مختزلًا في السلال الغذائية ومخيمات النازحين، ليس مهمة المبعوث، ولكن إصلاح سياسة العمل الإنساني ذاتها، مهمة أساسية في حال أراد تحقيق تقدم في محاور أخرى. مثلًا استقرار العملة ومنع المجاعة يمكن للمنظمات الدولية المساهمة فيه، كما أوضح اقتصاديون يمنيون منذ بداية الحرب، إذا غيرت المنظمات فهمها للأزمة الاقتصادية كأنها أزمة شحة سلع، بينما هي في الواقع أزمة انعدام الدخل المنتظم. ولكن فهمها هذا ليس ناتج خطأ في التحليل، بل ناتج رؤية براغماتية وانتفاعية للعمل الإنساني، وهذا يعني أن تغييرها ليس مسألة إقناع، بل مسألة ضغوط ووصول إلى حلول وسط، وهنا يأتي دور المبعوث الأممي الذي يمكنه السير في هذا الطريق أولًا عبر الضغط نحو تكريس شفافية أكبر لهذه المؤسسات، والمطالبة بالمحاسبة على الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها قياداتها، حتى تعود ثقة المانحين والمواطنين فيها، وثانيًا عبر إشراكها في مهمة وقف تدهور سعر العملة.
أما انهيار النظام الصحي في اليمن، فمن أشرس مزهقي الأرواح، وربما لا يقل عدد ضحاياه عن ضحايا القتال، كما أن صعوبة التنقل بين المدن وتكاليفه المادية الثقيلة، متواشجة مع انعدام الرواتب وانهيار سعر العملة وتداعي كليات الطب، تتحالف مع انهيار النظام الصحي في تدمير الصحة العامة (النفسية والجسدية)، وتكديح السكان.
هذا هو الميدان الذي يمكن للمبعوث الأممي بكثير من الجهد والعمل المتواصل تحقيق تقدم فيه،؛ محاولة إيجاد حل للحرب في اليمن ليس أمرًا في نطاق نفوذه، أما المبالغة في فرض تصورات شخصية لا يسهم اليمنيون في صياغتها عن الحل المناسب للمشكلة اليمنية، أو محاولة تجاوز الفشل في إيقاف الحرب بتقديم الواقع المتردي وانهيار الدولة باعتباره حلًا، فهو أمر سيورد صاحبه في نهاية المطاف مورد فشل غريفيث وبنعمر، وسيؤدي إلى تدهور سياسي أكثر لما تبقى من قوة حية في الطبقة الوسطى اليمنية التي أسهم مكتب المبعوث السابق في تفسخها عبر برامج المرأة والشباب التي حولت شرائح اجتماعية كان يمكن لها أن تمارس دورًا حقيقيًا في الشأن العام والواقع الاجتماعي، إلى طبقة طفيلية وظيفتها الدعاية لتصورات وأوهام الآخرين.

الأكثر قراءة