المشاهد نت

إعادةتموضع أم تغيير حدود التماس؟

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمني

ما الذي يجري في اليمن؟ معركة تدور في مسار يبدو غرائبيًا، لكنه أصبح واقعًا مألوفًا بمرائيته التي تملؤها المفاجآت. كما هو جارٍ اليوم في معارك الساحل الغربي، إذ قامت القوات المشتركة بعملية انسحاب مفاجئة، لعشرات الكيلومترات، تاركة مناطق واسعة لسيطرة الحوثيين.
ولا ندري ما إن كان الهدف من ذلك إعادة تموضع وفق ما أعلنته القوات المشتركة، أو تغيير حدود التماس بين أطراف النزاع اليمني، وفق سياق حدده الأكثر تصرفًا في مسار الحرب.
وحقيقة، لا يمكننا تفسير الهدف الرئيسي من وراء الانسحاب بصورة حاسمة، وإلى أي مدى سيغير ذلك من مستقبل الصراع في اليمن، ما لم تتضح الصورة في تطور المعارك. وهذا لا يعني أن المشهد يغرق في صورة أقل وضوحًا اليوم، لكنه يستدعي عدم استباق الأحداث، وما ستفضي إليه.
وبعيدًا عما أعلنته لجنة الأمم المتحدة المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار في الحديدة، بأنها لم تكن على اطلاع بخطوات الانسحاب. وما قيل من أنها خطوات من جانب واحد، فإن الصورة بحسب أخبار ليست كما هو متداول في وسائل الإعلام، إذ إن الحكومة كانت على اطلاع. والأرجح أن تلك الخطوات جاءت وفق تفاهمات، وأن قيادات في الحكومة والتحالف كانوا على اطلاع مسبق بتلك المستجدات. والمتحدث الرسمي باسم التحالف أكد دعم قيادات التحالف لتلك الخطوات، كونها -حد تعبيره- إجراءً تكتيكيًا، وهو نفس المصطلح الذي استخدمه تبرير القوات المشتركة لعملية الانسحاب. مع هذا، كان مثيرًا للانتباه، أن الحكومة اليمنية لم يصدر منها أي موقف مباشر من ذلك، وحدث كهذا كان يتطلب أن يصدر تعليق عليه من وزارة الدفاع في حكومة هادي، غير أن هناك انفصامًا معروفًا، في التشكيلات المفترض أنها تقاتل في صف الحكومة المعترف بها دوليًا، وتعمل بمعزل عن سيطرة الحكومة وقرارها.

الانسحاب لعشرات الكيلومترات، لم يكن متبوعًا بعمليات خاطفة لتوجيه ضربات للحوثيين، وكذلك لم يستغله الأخيرون من أجل فرض خسائر على خصمه


هل كان الانسحاب خطوة تكتيكية، كما تم التأكيد على ذلك؟ وهذا التكتيك، بحسب أكثر من بيان تصدر له ناشطون من التيار الذي تقوده عائلة صالح، قالوا إن الغرض زحزحة اتفاق ستوكهولم الذي أوقف ما سموه حرب استعادة البلد من قبضة الحوثي، على مشارف مدينة الحديدة.
لكن وجود شكل تكتيكي ينبغي تحديد إلى ماذا يرمي، وتفاصيل أبعاده الاستراتيجية، وأهدافه المباشرة في الميدان. فالانسحاب لعشرات الكيلومترات، لم يكن متبوعًا بعمليات خاطفة لتوجيه ضربات للحوثيين، وكذلك لم يستغله الأخيرون من أجل فرض خسائر على خصمه. وعلى خلاف ذلك، تبع الانسحاب السريع أن أعادت قوات الحوثي سيطرتها على تلك المناطق، وبسلاسة. مع استثناء مواجهات عنيفة ومحتدمة في مديرية حيس- جنوب الحديدة، بحيث استعادت القوات المشتركة جزءًا من مناطق كانت سيطرت عليها، وبنفس المشهد الدامي.

انسحبت القوات تاركة نسيجًا واسعًا من المجتمع شكل لهم حاضنًا لعمليات انتقامية من الحوثيين. وهذا ربما ينعكس على مناطق أخرى. وكان ذلك تضمينًا لوجه من وجوه العبث في الحرب الجارية


وفي حديث جمعني بصديق وزميل، مطلع على أحداث المعارك الجارية في الساحل، قبل حوالي أسبوع، كان يتساءل ما إن كان الانسحاب جرى بدون علم السعودية، في إشارة إلى أنه قرار إماراتي. ولم يكن تصريح الناطق باسم التحالف سوى تغطية لدرء الإحراج. وأرى أن ذلك تأويل لا يمكن المراهنة عليه. لكن الأهم، ما تناوله الصديق، حول جدوى الانسحاب ثم عودة المعارك. كانت الطلعات الجوية تشن بكثافة في الحديدة. وإضافة إلى ما يعانيه المدنيون والمجتمعات التهامية في تلك المناطق، انسحبت القوات تاركة نسيجًا واسعًا من المجتمع شكل لهم حاضنًا لعمليات انتقامية من الحوثيين. وهذا ربما ينعكس على مناطق أخرى. وكان ذلك تضمينًا لوجه من وجوه العبث في الحرب الجارية.
على صعيد آخر، ذهبت تلك القوات لتتوغل شرق حيس نحو الجراحي والعدين، وفي تعز توغلت لتسيطر على مناطق في مقبنة في اتجاه منطقة البرح.
إذن، جرت استعادة مديرية حيس من الحوثيين، والسيطرة على مناطق أخرى، ونتج عن ذلك ضحايا ومعاناة. كما أن بعض المناطق تمت السيطرة عليها دون مواجهات، كما لو كانت مخلاة، أو أنها لم تشهد تعزيزات حوثية.
ولا نستطيع الجزم ما إن كان هناك اتفاق مسبق، حدد تلك المستجدات. وتحيلنا بعض المظاهر للتكهن حول ما إن كان هناك فعلًا مثل تلك التوافقات المسبقة. فالمبعوث الأممي الجديد زار اليمن، والتقى عدة أطراف يمنية، بمن فيهم طارق صالح، نجل شقيق الرئيس السابق علي صالح، وقائد قوات حراس الجمهورية في الساحل الغربي. وبعد أيام بدأ الحديث عن تحركات للانسحاب في الحديدة من القوات المشتركة. وكما سبق أن قلنا، لم تشهد تلك التحركات أية عمليات مباغتة من الطرفين لتوجيه ضربات. ولا نعرف كيف تمت العملية، أو كيف تمت تغطية الانسحاب.

ووسط تلك التداعيات، مازلنا نراقب ما يجري في الساحل الغربي. واللافت أن حجم التوسع أصبح متباطئًا، بالنسبة للقوات المشتركة، وأيضًا حجم المواجهات، عما كانت عليه في أيام المواجهات الأولى


وهذا يثير احتمالية وجود عمليات تسليم متفق عليها، بين طرفين متقاتلين، ولا نعرف ما إن كانت تثير جانبًا من تجسيد حسن النوايا بين أطراف لاعبة في المشهد اليمني، وهي الأقدر على تسيير الحرب أو إعطاء ضمانات معينة. ولا يمكن الذهاب بعيدًا في ذلك، لكن ما جرى؛ يبدو تغييرًا واسعًا لنقاط التماس بين طرفي نزاع، وهو ربما ما يرمي إليه مصطلح إعادة التموضع.
وإذا تساءلنا عن أسباب حدوث عمليات قتالية، مادام الأمر يمضي نحو تلك التكهنات. علينا أولًا معرفة من هم المسؤولون المباشرون عن تحريك الحرب. وبعيدًا عن التكهنات، فحدوث عمليات قتالية كان جانبًا مهمًا، حتى لا تتضعضع التعبئة لدى المتقاتلين، وخصوصًا الطرف الذي انسحب. والتغطية على الانسحاب وتبريره بتحقيق انتصارات معينة، كان مهمًا بالنسبة للقوات المشتركة.
ووسط تلك التداعيات، مازلنا نراقب ما يجري في الساحل الغربي. واللافت أن حجم التوسع أصبح متباطئًا، بالنسبة للقوات المشتركة، وأيضًا حجم المواجهات، عما كانت عليه في أيام المواجهات الأولى التي تبعت عملية الانسحاب. وسنعرف ما إن كان وراء الانسحاب إجراء تكتيكي، من عدمه، بحسب ما ستبوح به الأحداث في المستقبل. إذ ينبغي أن يكون الغرض منه إحراز نصر أكبر، وهو ما ستؤكده العمليات العسكرية وتطورها في إب وتعز، وليس تلك البيانات التي يتم تداولها في وسائل الإعلام. أو أن الصورة، بخلاف ذلك، ستكون تغييرًا لحدود التماس بين المتقاتلين.
وبالنسبة للمشهد، كما يبدو الآن، فالرابح الأكبر من تلك العملية هو الحوثي، إذ استعاد معظم مناطق الحديدة التي خسرها في 2018، وبذلك ابتعد الخطر عن ميناء الحديدة الحيوي والاستراتيجي. وعدا ذلك، فلا يسعنا سوى الانتظار.
وإذا حاولنا الإلمام بمشهد الحرب، فإننا بحاجة لاستعادة محطات مهمة، شكلت المتغيرات في مسار يكظم مفاجآت وأغراضًا شائكة ومعقدة. والخلاصة أن الصورة في الساحل مازالت لحظة مناسبة لإثارة تساؤلات وتساؤلات. لكنها دائما منبثقة من سؤال مركزي وأكثر عمومية عن؛ ما الذي يجري في اليمن؟

الأكثر قراءة