المشاهد نت

لماذا قتلتم محمد ناجي أحمد؟

محمد عبدالوكيل جازم

محمد عبدالوكيل جازم

كاتب وناقد وروائي يماني

محمد عبدالوكيل جازم

إن من الأسباب التي أعاقت قيام مشروع دولة مدينة في اليمن، هذا النزيف الحاد للعقول التي معظمها إن لم تنجح في مغادرة البلد -أو البقاء فيه بعزة وكرامة- تغتالها أيادٍ أثيمة معلومة المصدر والهدف والهوية. ولعل هذا النزيف المر هو الذي أوقع اليمن في شرك الصراعات الجوفاء، وأدخلها أتون الحرب، وما أكثر المرات التي سمعت فيها من البعض مطالبتهم المثقف اليمني بالبقاء في فوهة المدفع، وانتظار دوره على المذبح كما لو أنه خروف، دون أن تسمع من أولئك النفر المطالبة بحقوق المواطنة المتساوية.
في الكثير من الصراعات والأحداث والتحولات التي شهدتها بلادنا، كانت الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية تفقد خيرة كوادرها، وكانت الأجنحة القبيحة في هذه التكوينات لا تقصي الكوادر المبدعة والمثقفة فقط، وإنما تعمد برعونة إلى تصفيتها، معتقدة أنها بذلك مهدت لنفسها حياة سلطوية خالية من منغصات قرون الاستشعار: الكتاب والصحفيين وحملة الفكر والرأي.
في الآونة الأخيرة من هذه الصراعات، استهدفت يد الغدر المبدع والمفكر الكبير محمد ناجي أحمد، في مفرق الحوبان، جوار إحدى النقاط العسكرية.
المجرم الذي كان يقود دراجة نارية، لاذ بالفرار أمام أعين ومسمع الجميع، بما في ذلك كيمرات المراقبة الموضوعة أمام المحال التجارية. كتابات الشهيد محمد ناجي أرقت الكثيرين من ذوي المصالح. وبدون شك، فإن المسؤولين عن المنطقة والبلد معنيون بالقبض على الجاني، والتحقيق في الأمر، لكي تظهر الحقيقة للناس الذين فجعهم موت ناجي على تلك الصورة التي أعلنها شقيقه الكاتب أحمد ناجي أحمد؛ حيث تمت مباغتته بصدمة ألقته أرضًا، ولم يكتفِ القاتل المجرم بذلك، وإنما عادت الدراجة لتدوس رأسه وتمر عليه هكذا دون رحمة أو خوف من العقاب. الأمر الذي أودى بحياة الشهيد، في جريمة شنيعة يقشعر لها البدن، وتشمئز منها النفس. جريمة مرفوضة في الأعراف والأديان والقوانين والشرائع، فلماذا أيها القتلة تستهترون بأرواح معارضيكم ممن يدافعون عن حرية الكلمة وحكمتها ورصانتها؟
لماذا تفرغون اليمن من العقول المفكرة، وتدمرون بنيتها الفكرية والحضارية؟ ألا تعلمون أنكم تقتلون روح الإنسان اليمني، وتقطعون أوصاله ومستقبل الأجيال؟

كل ما فعله محمد هو أنه أعمل عقله واستخدمه بشجاعة لا نظير لها. استخدم منهجية عميقة أتمنى أن يلقي المهتمون الضوء عليها، حيث إنه انطلق من منهج الشك بالحقائق السياسية والتاريخية المطلقة، وذهب يصبغها بمعارفه العقلية والمنهجية.


تعرفت على صديقي المبدع محمد ناجي أحمد -الذي غيبت صوته نهائيًا يد الغدر في 8 يناير- في وقت مبكر من بدياته الإبداعية، عام 1992 تحديدًا، وفي كلية الآداب جامعة تعز.
كل ما فعله ناجي هو أنه امتلك مشروعًا تجاوز فيه الواقع الذي حاول بكل طاقته انتشاله مما هو فيه، لكن الواقع لم يستوعب مشروع ناجي المغاير، وطفق يكيل له الكمائن والفخاخ والتهم.
كل ما فعله محمد هو أنه أعمل عقله واستخدمه بشجاعة لا نظير لها. استخدم منهجية عميقة أتمنى أن يلقي المهتمون الضوء عليها، حيث إنه انطلق من منهج الشك بالحقائق السياسية والتاريخية المطلقة، وذهب يصبغها بمعارفه العقلية والمنهجية. ومن خلال ذلك استطاع كاتبنا أن يضيف شيئًا حقيقيًا للعقل الجمعي اليمني المغيب.
كان محمد قطع دراسته في دمشق لأسباب تتعلق بحريته الفكرية والذاتية، عاد إلى أرض الوطن وفي دواخله حنين لا ينتهي لكامل التراب اليمني. يومها كنت طلبت تحويل ملفي الجامعي إلى جامعة تعز، ومن اللحظة الأولى لتعارفنا أصبحنا صديقين، بخاصة وأنني قدمت نفسي باعتباري عضو اتحاد الكتاب فرع صنعاء، وهو قدم نفسه باعتباره عضو كتاب تعز. ومن اللحظة الأولى عرفنا أنه سيكون أمامنا فضاء رحب حلقنا فيه أنا ومحمد، واختلفنا، وكابدنا، وانتصرنا في النهاية، لأن البقاء دائمًا للحرية والأمل والحلم. منذ اللحظة الأولى عرفت أن محمد محارب من الطراز الأول، من الطراز الصعب.. يستهويه دائمًا الوقوف مع المظلومين والدفاع عنهم.. ويعرف جيدًا أن الظلم والجهل والمرض آفات اليمن التي تأكلها وتشربها ليلًا ونهارًا.. نعم منذ لقائنا الأول، أصبحنا صديقين حميمين أنا ومحمد ناجي.. واشتركنا في تأسيس العديد من الجمعيات والجماعات الأدبية، بالإضافة إلى إقامة الفعاليات والمهرجانات، وأقدمنا على تأليب الشبان، وكان لنا أن صنعنا شيئًا أعتقد أنه حرك سكون المدينة الحالمة يومها. منذ لقائنا الأول أصبحنا صديقين كأن كل واحد منا كان يبحث عن أخيه.. سرعان ما بدأنا في العمل معًا، لا أدري كيف تم ذلك، مع أن الكثير من أصدقاء محمد كانوا يصفونه بالمتأني في بناء العلاقات، وبأنه سرعان ما يكسب الأصدقاء، وسرعان ما يملهم، ولكن الشيء الذي يجمع عليه الجميع، أنه يظل وفيًا لمناصرة قضاياهم الإنسانية، وتلك المتعلقة بالديمقراطية وحرية الفكر والرأي والمعتقد.
في نهاية 1992 التقينا، وكان يقدمني لأصدقائه بالأديب المكتمل: القاص والشاعر والناقد، ويردف: هكذا وجدته؛ مع أنني كنت أتلمس طريق البدايات. وبالمثل كنت أنا أقدمه لأصدقائي قائلًا: الكاتب الكبير الغني عن التعريف، لأننا يومها كنا قد نشرنا العديد من الكتابات على صفحات الصحف والمجلات، وقرأنا بعضنا قبل أن نلتقي. وحقًا فقد ظل طوال حياته يدافع عن توصيفي له بالكاتب الكبير.
التقينا بالتحديد وسط كلية الآداب بتعز؛ تلك الكلية التي كانت في السابق عبارة عن مبنى تركي قديم يتكون من طابقين تقريبًا، استُخدم كمعهد عسكري لفترة طويلة. كنا نجلس تحت الأشجار الكثيفة في الساحة التي تتوسط المبنى، أمامنا نافورة قديمة لا تعمل. أتذكر يومها أننا اتفقنا على تأسيس نادٍ أدبي، وكنا ننشط فيه عبر الفضاء المتاح، لكن الظروف لم تساعدنا على الاستمرار، لتبعات قانونية تتعلق بالتأسيس، قررنا تغيير التسمية إلى جماعة أدبية حتى لا تطالبنا الجهات الرسمية بترخيص، فقد كانت حلقتنا في الجامعة تثير الرعب لدى الكثير من الذين يعتقدون أنهم “الأمن”، والواقع أننا استعنا بأحد المحامين الذي أوضح لنا أن مصوغ جماعة أدبية لا يترتب عليه ترخيص أو غير ذلك، لكن الارتياب ظل يساور أمن الجامعة، وهو ما جعلنا نعمد إلى نقل بعض أنشطتنا إلى خارج حديقة الجامعة. كان من أعضاء الجماعة الأدبية أحمد الزكري وياسين الزكري وعبدالواحد السامعي وعادل سميع وشكيب عبدالله وغيرهم. وليعذرني من لا تحضرني الآن أسماؤهم.
ذات يوم كنا في ساحة كلية التربية المجاورة للقصر الجمهوري، يومها بتعز، وفيما نحن نخوض في الشأن العام وانحراف مسار الوحدة اليمنية المشروط بديمقراطية مفتوحة، تفاجأت بمحمد ناجي وهو يغادر مجلسنا بغضب. كان يرتدي شالًا كشميريًا مخططًا بالأصفر، فوق لباسه المدني. كان يرفع يده اليمنى وهو يصرخ بكل صوته الجهوري: “لا لتكميم الأفواه.. نعم للحرية.. نعم للديمقراطية.. يعيش اليمن الموحد”.
كان محمد مثل الشرارة التي أشعلت النار، إذ سرعان ما غادر الطلاب مجالسهم ومقاعدهم، وتجمعوا حوله. اتسعت الحلقة إلى أن أصبحت موجة عاتية يصعب الوقوف أمامها.. لم يستطع أمن الجامعة تفريق المظاهرة رغم محاولته البائسة، لأنها كانت عفوية وسريعة، إذ سرعان ما لبّى الطلاب نداءها، وخرجنا إلى الشارع العام، مرورًا بمنطقة الكمب، حتى وصلنا المحافظة. بعد ذلك بأيام أخبرني محمد أنهم يعدون لمظاهرة أخرى. وبالفعل خرجنا معًا، وكنا أنا وهو في المقدمة. هذه المرة كان يرتدي نفس الزي الذي ذكرته آنفًا، وبين يديه مكبر صوت “مايكروفون”. كنا أنا وهو في المقدمة، كان صوته يهز تعز بأكملها. انطلقنا من شارع جمال حتى المستشفى العسكري، مرورًا بكلية الآداب وفرن الكدم
والجحملية. وعند المستشفى تركنا المظاهرة لتكمل مسارها، قال لي محمد قبل أن نفترق: انتبه لنفسك؛ أنا الاستخبارات الأمنية قد عزمت على اعتقالي، ولكني سأحاول جاهدًا أن أختفي. تنبيه محمد لي كان في محله.. بعد أيام سمعت أنه وقع في فخهم، فقد تم إلقاء القبض عليه، وكتبت الكثير من الصحف عن ذلك، وتناولت قضيته صحيفة “الحياة” اللندنية في صفحتها الأولى، وتابع الكتابة عنه الدكتور أبو بكر السقاف الذي طالب بإخراجه.
خرج صديقي من السجن بعد أشهر. وحين التقينا لمست كثيرًا من الحزن يغلف وجهه، فقد تعرض لوابل غير مسبوق من التعذيب، ولمست أن طباعه ازدادت حدة؛ فلم يكن يميز عدوه من صديقه. هذا هو حال الذين يمرون بنفس التجربة، ولكن صديقي ازداد إدراكًا للظلم، وزاد تفكيره في أحوال الناس، وغضبه منهم، لأنهم خانعون ولا يدافعون عن حقوقهم ومستقبل أيامهم وأبنائهم. ظل محمد يدفع ثمن مواقفه إلى درجة أنه حرم من الدراسة لمدة محددة، ومنع من دخول اختبارات الجامعة.
أعدنا تنشيط جماعتنا بعد ذلك، وأصدرنا مجلة تشبه النشرة بعنوان مجلة “ندى”.
اختلفنا أنا ومحمد كثيرًا في الآراء والمواقف، واتفقنا أكثر، لكنه في الحقيقة كان من ذلك النوع النادر الذي يختلف معك برجولة وشرف، فقد كان عف اللسان، صادق الهمة، يعلي من شأن العقل والمنهجية.

الأكثر قراءة