المشاهد نت

دهشة اللغلغي الصنعاني (1)

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

ذهبت إلى ما درج عليه الناس، ولم أقل الصنعائي كما هو صحيح اللغة. كما لم أجارِ صاحب الكتاب في وصف صلته بصنعاء، فهو صنعاني تفوح رائحة المدينة من كل كلمة وكل حرف يخطه.
ولقد انتظرت طويلًا حتى أحصل على نسخة من كتابي الأستاذ عبدالرحمن بجاش “حافة إسحاق” و”لغلغي في صنعاء”. كانت لهفتي أشد لرؤية الكتاب الثاني، لأنني لم أطلع على شيء مما نشر في موضوعه، بينما قرأت بعض ما كتب عن حافة اسحاق وشارع 26 سبتمبر.
ورغم الشوق، فإنني لم أتغلب على أسباب كثيرة منعتني من زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، ليس أهمها وباء كورونا الذي حال دون إقامة المعرض في 2020، وتسبب في تأخيره 6 شهور في 2021. لكن الصديق الأستاذ حسين عبدالرحمن زار المعرض، وجلب نسخًا عديدة من “حافة إسحاق” و”لغلغي في صنعاء”. وقبل أسابيع فقط ناولني واحدة من كل منهما.
من العنوانين يتبادر إلى الذهن أن الكتابين مستقلان عن بعضهما، لكنهما في واقع الأمر حكاية متصلة، وكلاهما يحيل إلى الآخر بالاستطراد أو بالاسترجاع. إنهما سيرة ذاتيه أو جزء من سيرة لا أشك أننا سوف نقرأ أجزاءها الباقية في قادم الأيام

والسنين. وهي سيرة مفعمة وحافلة يتمتع صاحبها بذاكرة بصرية حادة ويقظة إلى أبعد الحدود. وفي السيرة لا يقدم شريطًا فوتوغرافيًا، أو مرآة نرى فيها حياته ومن حوله الأمكنة والناس والأشياء، ولكنه يأخذ القارئ معه إلى غمرة حياة نابضة وموارة لا يرى ويسمع فقط، وإنما يتفاعل وينفعل، يغضب ويفرح ويتألم، يضحك حتى القهقهة، ويتوجع إلى حدود البكاء.

ذاكرته البصرية لا ينسى وجه من حلق شعره لأول مرة عند دخوله المدينة، ولا لون الفوطة والقميص. كما لا ينسى أشكال الناس الذين قابلهم وعرفهم، ألوان ملابسهم وكيفية ارتدائها، الكوفية والمشدة، القميص والفوطة، لون الكمر


في ذاكرته البصرية لا ينسى وجه من حلق شعره لأول مرة عند دخوله المدينة، ولا لون الفوطة والقميص. كما لا ينسى أشكال الناس الذين قابلهم وعرفهم، ألوان ملابسهم وكيفية ارتدائها، الكوفية والمشدة، القميص والفوطة، لون الكمر، الفوطة مسدلة إلى سقف الحذاء أو محسورة عند الركبة… إلى آخره.
لا أدري لماذا حضرتني مذكرات الأديب الروسي ماكسيم غوركي، بخاصة أجزاءها الأولى، مع أن صاحب “حافة إسحاق” لم يطعم عذاب صاحب “طفولتي” و”بين الناس”، وإن كانت المرارة ظاهرة. ففي المدرسة يتحسر على أنه لا يجد مثل زملائه ما يشتري به الساندوتش والشاي. وقد كان يهرب أو يحاول من عبدالجبار، صاحب المكتبة الصغيرة الواقعة أمام بوابة مدرسة ناصر الابتدائية، ليتفادى الحرج من مطالبته بقيمة القلم الرصاص، ولا ينفك يطمئن على حزام، صاحب الدكان في الحارة، بأنه سوف يوفيه الدين، وهو يمرق بسرعة، أو يطمئن ويترجى وفي ذهنه ريال أو ريالان تصله شهريًا من عمه عبدالحبيب الذي يدير مخبز والده في صنعاء. وهو في سيرته لا يكف يعرب عن مشاعر حب عميق لهذا العم الحاني والباذل.

آخر كتاب “لغلغي في صنعاء”، يتبين أن العلاقة بين الأب والابن ظلت ملتبسة، مع أن السعادة غمرت الوالد عندما سمع اسم ابنه في المذياع يحتل المرتبة الثالثة في الثانوية التجارية


إن عبدالرحمن لا يفصح عن الظروف التي دفعته لمغادرة تعز إلى صنعاء، بعد الثاني إعدادي، إلا أن القارئ لا يجد صعوبة في استنتاج أنه اتخذ القرار على غير رغبة والده. والدليل أنه لم يحمل في جيبه ما يكفي لسداد أجرة السيارة. لقد وضع في حسبانه أن يستقل الباص، فسار إلى مقر شركة النقل البري، ماشيًا وحاملًا حقيبته، وعندما لم يلحق موعد الباص، تابع السير إلى فرزة صنعاء.
هناك عند الفرزة تعرض لموقف لا بد أنه ولد لديه حالة اضطراب وقلق وعذاب نفسي، فقد أحرق مراكبه، بينما ينقصه السلاح. دليل إحراق المراكب رسالة تبعته إلى صنعاء، توصي العم بألا يسمح له بالدراسة، وأن يلزمه بالعمل في المخبز، لكن العم الكريم والحنون لا ينصاع لأمر أخيه: “ادرس ما لك منهم”.

دهشة اللغلغي الصنعاني (1)


كذلك في ساعة القلق ابتسم القدر، وجاء يسعف الفتى الحائر. لقد ساق إليه واحدًا من أهله، جاء يمشي بالصدفة عند الفرزة، وهو غالب حياءه وكبرياءه، وطلب “نص ريال” لتوفية أجرة التاكسي، ويبذل الرجل أكثر، وتمنعه عزة النفس، فلا يأخذ غير نصف ريال.
في إب يتناول الركاب فطورهم، ويبقى هو في السيارة. وحيث كان الطريق ترابيًا استغرق السير من إب إلى ذمار 6 ساعات، استدعت نزولهم للغداء، وبقي هو في السيارة.

حتى آخر كتاب “لغلغي في صنعاء”، يتبين أن العلاقة بين الأب والابن ظلت ملتبسة، مع أن السعادة غمرت الوالد عندما سمع اسم ابنه في المذياع يحتل المرتبة الثالثة في الثانوية التجارية. وعندما ينجح في الحصول على منحة إلى العراق، لم يستحسن الأب الأمر، لأن العراق تحت حكم البعثيين. ولعله خشي عليه من مضايقاتهم، وليس من إغراءاتهم. لذلك اقترح عليه إكمال دراسته في القاهرة، ووعده بسكن مستقل وسيارة فوكس فاجن خاصة.

إن عبدالرحمن بجاش هو الولد المشاكس في حافة إسحاق، والمكافح في صنعاء


ولقد انتظر وانتظر، ثم كتب يسأل، فصدمه الرد: “ومن سيكتب للجرائد؟”. وكان قد بدأ يكتب وينشر في صحيفة “الثورة”، ما استدعى أحدهم أن يسأل الشيخ قاسم بجاش عن وجه القرابة بينه وبين عبدالرحمن بجاش.

  • هو ابني.
  • إنه شيوعي.

*

السؤال نفسه تلقاه والد محمد حسنين هيكل، في بداية اشتغاله في الصحافة. كان الرجل تاجرًا، وقد رتب على أن يورث المهنة ابنه الأكبر، فدفع به إلى الالتحاق بمعهد تجاري، وهذا جمع بين الدراسة والعمل في الصحافة الذي بدأه في الـ19 من عمره. في أحد الأيام كان الوالد في المحكمة بخصوص قضية تتصل بعمله التجاري، وسأله القاضي:

  • يقرب لك إيه الصحفي محمد حسنين هيكل؟
  • ده ابني.
    ولما رجع إلى البيت، قال لزوجته: الظاهر أن محمد ينظره مستقبل.
    مؤكد أن كتابة هيكل لفتت انتباه القاضي المصري، فأرد أن يعرف، واكتفى بالسؤال. أما القاضي العنسي فقد وشى بالكاتب عند والده. والتفسير أنها الغيرة، وليس غير، إذ يستبعد تمامًا أن الواشي استخلص العقيدة الشيوعية من مقالات شاب مبتدئ لا بد أنه كتب وجدانيات أو سجل انطباعات حول مشاهدات يومية للحياة من حوله.
    غير أن التباس العلاقة بين الأب والابن لم يلحظ مبكرًا. ففي السنوات الأولى يتجلى الدفء والحميمية بين أب حنون وابن نجيب ونابه. ترى الأب “يشلخ” ابنه حين يشكر الحلاق على أنه حول ابن القرية إلى تعزي. وحتى عندما يطلق تعليقات متهكمة على بعض التصرفات، فإن مضمونها يعبر عن حنان وإعجاب ببراءة ابنه أو بشطحاته: “يكتب لعمه الأخ”، أو “يرفع صور نجلاء فتحي فوق صورة جمال عبدالناصر”.
    رغم ذاك ومعه، فإن صاحب “حافة إسحاق” لا يخفي إعجابه الشديد بقيمة والده ومكانته بين الناس. شجاعته، شهامته، وكرمه الذي نعرفه وتعرفه تعز وغيرها.
    إن عبدالرحمن بجاش هو الولد المشاكس في حافة إسحاق، والمكافح في صنعاء، فما الذي قاله في سيرته؟
    الحديث متصل…
الأكثر قراءة