المشاهد نت

أدب النجار… قصص وروايات تستحق الوقوف

محمد عبدالوكيل جازم

محمد عبدالوكيل جازم

كاتب صحافي وروائي يمني

قبل الدخول إلى الفكرة الرئيسة، أود الإشارة إلى أننا في هذا الظرف العصيب الذي تسوده أجواء حرب عبثية طاحنة في بلادنا، حري بنا أن نلتفت إلى كل ما ينتج ويكتب في الساحة الثقافية اليمنية، ليس لأن كل ما يكتب لا بد أن تنعكس في مراياه وقائع الحرب، ولكن من دون ريب لا بد لنا أن نوضح أن كل كاتب في هذه الأجواء غير المنطقية، لديه ما يقوله، ولديه رسالته التي يريدها أن تصل، وإن كانت بعيدة عن أجواء الحرب، وأهم ما يمكن أن نتداركه في هذه الأجواء التساؤلات التالية:

الرؤى الإبداعية وكيفية انعكاسات الحرب على انفعالاتها وتناقضاتها اللحظية.

كيف يربط المبدع بين أوجاعه النفسية وتماسكه الثقافي والإبداعي؟ ما هي المظاهر العامة لانشغالات المبدع في هذه الآونة؟ ماذا يريد المبدع من هذا العالم؟ وكيف ينظر إليه وقد حطّم أحلامه الكبيرة؟ بماذا يستعين المبدع في مثل هذه الأوقات التحولية القاتلة عندما يكتب؟ التساؤلات اليوم كبيرة ومفتوحة على الألم العربي الكبير، ولا يمكن الإلمام بها، ولكن أكثر الأسئلة ارتباطًا بموضوعنا هي: كيف يعالج المبدعون لحظات اغترابهم عن الواقع المشوه؟ هل بمزيد من الانغماس فيه، أم بالهروب منه؟ في تقديري أن المبدع إسماعيل النجار عالج هذه القضية بمزيد من الانغماس في الواقع، وإن كانت معظم كتاباته الإبداعية لا تتطرق إلى الحرب من قريب ولا من بعيد، ولكن طريقة النبش التي استخدمها الكاتب توحي أن ثمة همًا كبيرًا يقتفي أثره، وثمة إدانة للحرب بطريقة غير مباشرة: هذا الواقع الجميل المبتئس أجمل من حربكم التافهة!

إسماعيل النجار بارع في حكي القصص الروائية والقصيرة، وبارع أيضًا في مهنته الطبية الدقيقة. ينحاز لمدرسة الواقع بقوة، ويختار شخصياته من الواقع بدقة، مسقطًا عليهم مهنته الطبية، لأنه يتعامل مع شخصياته كما لو أنها أسنان تحتاج إلى تشذيبها من التسوس؛ تشذيبها من أوجاع الإهمال

إسماعيل النجار قاص وروائي يعمل في مهنة الطب، هذه المهنة التي أنتجت المئات من الكتاب العالمين، فضلًا عن أن أبا القصة العالمية أنطوان تشيخوف، كان طبيبًا، وكذلك أبا القصة العربية يوسف إدريس، فقد كان طبيبًا، ومنهم إبراهيم ناجي وهيفاء بيطار وعلاء الأسواني وأحمد خالد توفيق، وفي اليمن صادفت الكثير من الذين يكتبون القصة والرواية ويقرضون الشعر، ومنهم ياسين القباطي وأحمد راشد عبدالمولى وغيرهما.

إسماعيل النجار بارع في حكي القصص الروائية والقصيرة، وبارع أيضًا في مهنته الطبية الدقيقة. ينحاز لمدرسة الواقع بقوة، ويختار شخصياته من الواقع بدقة، مسقطًا عليهم مهنته الطبية، لأنه يتعامل مع شخصياته كما لو أنها أسنان تحتاج إلى تشذيبها من التسوس؛ تشذيبها من أوجاع الإهمال، وبين بنات أفكاره تصبح هذه الشخصيات حقيقية متعافية قادرة على طحن الحياة بلذة، على الرغم من مرارتها.

عمل كاتبنا طوال عمره على الاهتمام بالكتابة، ففي مطلع شبابه ذهب للدراسة في العاصمة السورية دمشق، وهناك شارك في إحدى مسابقات الهواة القصصية (1978)، ليحصد المركز الأول في المسابقة، لكنه عاد فأخلص لمهنته الطبية، ولم ينس أبدًا أنه قاص. هو الآن في العقد السادس من عمره، يتمتع بذهن حاد وبصيرة نافذة، منذ بضع سنوات بدأ يعيد ترتيب نفسه إبداعيًا، فطفق يقتطع من وقته الثمين الكثير من الساعات، وشرع في الكتابة عن الواقع اليمني، مستخدمًا أدواته الطبية الخاصة، وأسلوبه الخاص. أصدر في 2016 مجموعته القصصية الروائية الأولى بعنوان “العشق القاتل”، ثم انفرطت عقدة الإصدارات، لتخرج إلى النور مجموعته القصصية الثانية “المهاجرون مع الطيور”، ثم “جريمة في المحراب”، وأخيرًا “المنبوذ”.

اطلعت على معظم إنتاج النجار، ووجدت أنه يطرح إشكالية جديدة حين يصف أعماله، لأنه وصف جميع إصداراته بـ”مجموعة قصصية روائية”، وهذا لعمري توصيف جديد، فالسرد الفني إما قصة قصيرة وإما رواية أو رواية قصيرة، وغير ذلك من التسميات المفتوحة على القصة القصيرة جدًا والأقصوصة والقصة الومضة وما شابه. وضعنا القاص الإشكالي بين الكثير من الخيارات، فهل أراد الكاتب أن يبتكر جنسًا جديدًا من الكتابة، أم أنه أراد أن يفجر لغزًا، ليتركنا في فضاء النقاش والتناول والسهر، كما قال المتنبي: “أنام ملء عيوني عن شواردها…”.

بالمجمل نحن أمام ظاهرة أدبية وتساؤلات عميقة لا بد من الوقوف عليها، إن السؤال الذي يحيلنا إليه الكاتب ولا يمكننا الفكاك منه أو الابتعاد من تشظيه: كيف تلقف الباحثون والمهتمون هذه الأعمال؟ وكيف يمكن للأكاديميين والمختصين أن يصنفوا هذه الأعمال؟ وهل بالإمكان وضعها في خانة القصة أم في خانة الرواية، أم أن الكاتب سوف يقودهم إلى زراعة خانة جديدة على الرغم من فجاجة مفردة خانة؟

في تصوري أن الإشكالية قائمة! ولكني بعد قراءة الأعمال وجدت أنها بالفعل تحتوي على القصص القصيرة والقصص الطويلة، وأن التوصيف صحيح، ولكني خشيت من أن الكاتب ذهب إلى أن كل قصصه ما هي إلا روايات، ومن هنا استبقيت التساؤل، وتركته مفتوحًا، بخاصة وأنني لاحظت أن الكاتب لا يسرد قصصه القصيرة أحيانًا وفق تقنية القصة القصيرة، ولكن وفق تقنيات الرواية أو القصة الطويلة (وذلك مثل قصة المهاجرون مع الطيور). ولعله رأى أن هذا هو الأسلوب الذي يريد له الانتشار والتعميم. الأسلوب الذي يريد أن يوضحه ويعمقه كما لو أنه حامل مشرطه الطبي يريد في غرفة العمليات أن يجري عملية جراحية قيصرية للكتابة السردية، مع وضع خطين تحت قيصرية، فهي خليط اشتقاقي أزعم أنه من القصة والرواية، ولعلي هنا سوف أتمنى على الكاتب اختيار نماذج من رواياته المبثوثة في كل الإصدارات، ثم العمل على إصدارها تحت توصيف “روايات قصيرة”، وهو المصطلح الذي أورده معجم السرديات: “الرواية القصيرة ضرب تخييلي قصصي أطول من الأقصوصة وأقصر من الرواية” (إشراف: محمد القاضي، ص224)،

وذلك مثل الروايات القصيرة هذه: “المنبوذ”، و”العودة للحياة”، و”صائد الحمام”، و”العم مبروك”.

إن أهم ما يميز شخصيات النجار أن جميعها يمنية، وقد أراد من ذلك تكريس الذاتية اليمنية المهملة في زمن الفوضى، فهذا “وجدي نبيل الجعنان” بطل رواية “صائد الحمائم” من مجموعة “جريمة في المحراب” (ص51)، ينحدر من أسرة تجارية، يقول الراوي بأنه حاد الذكاء ممتلئ وجذاب وعلى درجة عالية من اللباقة، يهاجر إلى أوروبا، ويسهم في إنشاء شركات حديثة، يتزوج العشرات من النساء الأوروبيات والعربيات، وفي كل مرة كان يخضع لعملية تجميل لكي يفلت من مطارة الشرطة، لكنه يمني بامتياز، فلم تنقطع علاقته باليمن التي عاد إليها، وتزوج إحدى الفتيات وأنجب منها، وظل “مكرد الحمادي” وعائلته شهودًا على مغامراته الكثيرة. ثمة تناص تفاعلي بين هذه الرواية ورواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، رغم اختلاف زاوية التناول والمعالجة.

أما رواية “المنبوذ” من مجموعة المنبوذ (ص119)، فإن بطلها فتحي قاسم، شاب نحيف الجسم طويل هزيل البنية، نشأ في أسرة ريفية تابعة لمحافظة إب، لكنه في الأخير يكتشف أنه ليس ابن هذه الأسرة. عيونه زرق بسبب انحدار والده الأصلي من أسرة تركية. فتحي المنخرط في الحزب الناصري، يتلقى ضربات مؤلمة من أسرته التي تنبذه تمامًا، لكنه لم ينكسر. وهذه ميزة رئيسة في أبطال النجار: لا ينكسرون. سافر إلى تعز، وعمل في أكثر من مهنة، ثم غادر إلى السعودية، وبسبب أخلاقه التي اكتسبها من بيئته اليمنية، تستضيفه أسرة تركية ثرية وتزوجه إحدى بناتها. لم ينسَ أبدًا أسرته، وأصدقاءه الذين ناضلوا من أجله في اليمن.

الرواية الثالثة “العم مبروك” من مجموعة “المهاجرون مع الطيور”، عمل مبروك أجيرًا للشيخ رزّة في قرية المراقدة، هو ووالده وأسرته، لكن أسرته تمردت وانتقلت إلى قرية العارضة، وهناك لمع نجم العم مبروك، فعمل مع أسرته مزرعة كبيرة صدّرت منتوجاتها إلى مدينة تعز. انتقل مبروك بفكرته إلى الرياض، وهناك كوّن امبراطورية تجارية ناجحة، لكنه في إحدى رحلاته إلى أدغال إفريقيا، تعرض لحادثة فقد على إثرها ذاكرته، وحين أفاق بعد عدة سنوات، أعاد امبراطورتيه وزوجته التي كانت قد تزوجت، ولم ينسَ وطنه اليمن الذي عاد إليه، وتزوج فيه.

رواية “العودة للحياة” هي أيضًا من أهم أعمال النجار، نشرت في مجموعة “العشق القاتل”. بطل الرواية علي الحاكم الذي كان له هدفان في الحياة: أن يصبح حاكمًا، وأن يتزوج من حبيبته فاطمة، دخل مدرسة الأيتام، ثم انخرط في الحزب الديمقراطي، وتعرض للكثير من الانتكاسات، إلا أنه انتصر في النهاية.

في أدب النجار قصص وروايات تستحق الوقوف والقراءة، مثل “الدودحية” و”جريمة في المحراب” و”بنت مأرب: حياة هرهرة”، و”فتاة الحديدة: بائعة الآيسكريم”، و”سعيد البس”، و”المفتهن”، و”التوأمان”. ولن أجافي الصواب إذا قلت إن كل ما كتبه النجار يعد مادة خصبة لمن أراد أن يزود ذاكرته ويغنيها، ولمن أراد أن يطور أعماله إلى سرديات كبرى. كما أنها مادة خصبة لكُتّاب السيناريو ومخرجي الأفلام السينمائية والمهتمين بالمسرح. ولا بد أن أشير هنا إلى الجهد الإبداعي لابنة كاتبنا الفنانة والمهندسة رؤى إسماعيل النجار، التي أخرجت الأغلفة بمهارة الفنان المحترف، ورسمت اللوحات الداخلية والخارجية، ووضعتنا أمام نص موازٍ للأعمال الإبداعية، فبدا الأمر كما لو أننا داخل مرسم يحمل الكثير من الأبعاد والرؤى التي تعبر عن قدرتها على استلهام فن والدها، وهو ما شكل تناغمًا يثير الدهش للقارئ


الأكثر قراءة