المشاهد نت

غير نزيه.. غير بريء

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

أحيانًا يتراءى لي أن الأمم المتحدة تمارس الفجور والفسق في اليمن، وأن دورها لا يخدم سوى القوى الخارجية التي تنفخ في نار الحرب دون تقدير لعذاب اليمنيين ومعاناتهم. ولست أجزم أن الأمم المتحدة تتحيز لطرف ضد آخر، لكني أقول بضمير مستريح إن دورها غير نزيه وغير بريء.
إن الوجه الواضح الوحيد في مهمة المبعوثين الأمميين، هو تكريس الانقسام وإطالة أمد الحرب إلى مدىً يصعب عنده لملمة الكيان الوطني.
والأصل أن الأمم المتحدة نشأت من أجل حل النزاعات، والحفاظ على السلام والأمن الدوليين، بعد أن فشلت عصبة الأمم في منع كارثة الحرب العالمية الثانية. لكن الباعث على العجب أن الدول التي شاركت في إنشائها وصياغة ميثاقها، سارعت إلى ضرب آمال البشرية في السلام، وراحت تحضر لحروب مستقبلية. بل إن التهديد بالحرب حصل قبل أن تتبدد أدخنة الحرب الثانية، فقد قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية عندما كانت اليابان توسط للتفاوض على شروط الاستسلام. وكان العمل الوحشي رسالة للاتحاد السوفيتي حليف اليوم وعدو المستقبل. ثم لم تنتظر الولايات المتحدة ودول الغرب طويلًا، فقد سارعت إلى إنشاء حلف الناتو (1949) لمحاصرة الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية في أوروبا  الشرقية. ذلك دفع هذه إلى إنشاء حلف وارسو في 1955. وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، بقي الناتو، ولم ينحل، بل راح يضغط على بطن روسيا الرأسمالية بهدف تفجيرها من الداخل.
هذا استطراد على الهامش وعلى الماشي. والحال أن الأمم المتحدة لم تسهم بأي دور في حل المنازعات، وفي إحلال السلام، والذي منع الحرب الساخنة بين القوى العظمى، هو العلم، وليس السياسة. إن انشطار الذرة والصواريخ عابرة القارات جعلت الحرب الكونية مستحلية. بسبب ذلك استعيض عن السلاح بأدوات صامتة وقاتلة، من الحرب الاقتصادية حتى الحرب النفسية.
وبينما شقت حركات التحرر طريقًا عريضًا في العقود التالية للحرب الثانية، فطردت جحافل المستعمرين، وحاولت إقامة نماذج وطنية للتنمية، عاد الاستعمار متسللًا عبر الوكالات التجارية والشركات عابرة القارات، والأهم عبر وكلائه المحليين. في هذا المدى الزمني دبرت الانقلابات، وصفيت التجارب الوطنية، وأضرمت الحروب، وفيها أطلق الرصاص وراء الرصاص، وطارت الصواريخ بعد الصواريخ، وتدفقت الدماء وتطايرت الرؤوس وتناثرت الجثث  في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية. وتولت القوى الاستعمارية تغذية أسباب الحروب، وفي أحيان كثيرة استخدمت الأمم المتحدة في دعم الوكلاء المحليين ضد القوى الوطنية، وفي مؤازرة الدول المعتدية ضد الدول التي تتعرض للعدوان.

أن الأمم المتحدة لم تسهم بأي دور في حل المنازعات، وفي إحلال السلام، والذي منع الحرب الساخنة بين القوى العظمى، هو العلم، وليس السياسة. إن انشطار الذرة والصواريخ عابرة القارات جعلت الحرب الكونية مستحلية. بسبب ذلك استعيض عن السلاح بأدوات صامتة وقاتلة، من الحرب الاقتصادية حتى الحرب النفسية.


ومن الصعب حصر الحروب والمآسي التي لحقت بالعالم العربي، وبعضها تم تحت علم الأمم المتحدة. تكفي مأساة الشعب الفلسطيني شاهدًا على فساد الضمير الإنساني. ولكن في وقت قريب تعرضت عدة بلدان عربية للغزو تنفيذًا لقرارات أصدرتها الأمم المتحدة، فجرى احتلال العراق وضرب ليبيا في رأسها وفي عمودها الفقري، وتم تمزيق السودان والصومال، وإحراق سوريا واليمن.
في اليمن، يصعب تحميل الأدوات المحلية وحدها مسؤولية تخريب البلاد خدمة للاستعمار.
قلت الاستعمار؟
 لا بأس، سأجاري السائد، وأستخدم مصطلح المجتمع الدولي في الإشارة إلى الدول التي تتحكم بالقرار الأممي، وتعبث بمقدرات ومقادير الشعوب. وسأقول إن الأدوات المحلية ليست وحدها المسؤولة  عن استجلاب المجتمع الدولي، ومنحه رخصة الخوض في بحر السياسة الوطنية، ومكنها من أن تمضي قدمًا حتى تقويض السيادة الوطنية. والحق أنه ليس من الماضي الحديث عن أدوات محلية، فهي موجودة في كل بلد، وفي كل عصر. غير أنه في هذا الزمان بات الفرز متعذرًا، وأصبح من العسير وضع خط فاصل بين القوى التي تتخفى وراء مصالح وتشتغل للخارج، وبين أحزاب سياسية نشأت في الأصل للتعبير عن مصالح اجتماعية، وعن توجهات قومية أو أممية. لكنها وقعت، بالوعي أو بالضلالة، في فخ العمل ضد الوطن، ومع الأجنبي. وهي استدعت سفراء الدول الغربية أثناء الأزمة التي ولدت حرب 1994، ثم تلاحق التدخل والوصاية في أعقاب الحرب، خلال مسار طويل تبدلت فيه التحالفات وتغيرت المواقع والمواقف. في ذلك المسار تفرق الذين جمعتهم حرب 1994، عند نقطة الزحام على المال والنفوذ داخل مؤسسات الحكم، وعلى الناحية الأخرى اجتمع الكفر والإيمان، ووحدت الخصومة مع النظام ورأسه أولئك الذين اشتبكوا في الحرب ذاتها. ولقد كان من بين الأشياء الخطيرة، ما قد يمكن استنتاجه الآن بأثر رجعي، وهو أن بين اللاعبين الخارجيين من كان يوحي وربما يملي أفكارًا من شأنها تأجيج  الخلاف، ومنها على سبيل المثال تبني المعارضة فكرة تغيير النظام السياسي من نظام رئاسي إلى نظام برلماني. وكان هذا كفيلًا بأن يدفع الخلاف إلى حافة الصدام والحرب، لأنه يشكل انقلابًا يسلب رئيس الدولة كل سلطاته في مرحلة كانت الديمقراطية ماتزال تحبو، إذا صح أنها قد ولدت بالفعل.
ثم نزلت صاعقة الربيع العربي، وذهب رئيس وجاء رئيس، ودخلت الأمم المتحدة على خط الأزمة، وعين جمال بن عمر مبعوثًا إلى اليمن. وفي حين كان يشرف على اجتماعات موفنبيك -ما سمي الحوار الوطني- كانت الحرب مشتعلة بعيدًا عن العاصمة بالشمال، وقريبًا منها. كانت مليشيا الحوثي تدق أبواب صنعاء، وتستولي على معسكرات الجيش ومعسكرات المليشيات الدينية المناهضة. ودخل الحوثيون صنعاء، وفرضوا بإشرف بن عمر وشهادته وثيقة السلم والشراكة (الحرب والاستحواذ). في ما بعد سيقول جمال بن عمر إن الأحزاب التي تمتلك مليشيات لم تقاوم الحوثيين، وسهلت اجتياحهم صنعاء.
وكذلك تواصلت الحرب في وجود -وربما في رعاية- المبعوثيين الأمميين من جمال بن عمر إلى هانس جروندبرغ.
سأستبعد الاتهامات التي كانت تحكى في المجالس الخاصة للمبعوث الأول بأنه كان يتلقى رشاوى من بعض أطراف الأزمة. سأستبعده تمامًا، وأعتبره نوعًا من الحشوش (النميمة) اليمني. لكن المؤكد أن الحرب في اليمن أتاحت مصدر دخل مهمًا للمبعوثين والموظفين وللعاملين في المنظمات والجمعيات التي تتخذ مسميات وتمارس أنشطة فيها الكثير من الوهم والقليل من الحقيقة. وعلى هذه الجبهة رأينا المبعوثين يحشدون الجموع في محافل توزعت على العواصم والمدن من عمان والبحر الميت إلى برلين وستوكهولم وغيرها. لقد اجتمعوا مرات كثيرة بالعشرات والمئات، مرة للناشطين، وأخرى للسياسيين، وثالثة للنساء، ورابعة وخامسة… وكثيرًا ما جمعوهم في سلة واحدة، والأحاديث تتكرر، والمخرجات بلا معنى، وهي نفسها لا تتغير.
ولقد دهشت ولم أصدق حين سمعت أن رحلة طائرة الأمم المتحدة إلى صنعاء تكلف 45 ألف دولار، مخصومة دائمًا من الودائع والقروض المحسوبة على الحكومة اليمنية، ولقاء هذه التكلفة قد تحمل الطائرة خبيرًا واحدًا لا يقدم ولا يؤخر.
لا. ليس هذا وحده.
لقد نسي المبعوث الأممي في إحدى المرات جهاز اللابتوب في فندق في صنعاء، واضطر لإرسال الطائرة من أجل إحضار الشغل المخزون في الجهاز الثمين.
وليس من أجل هذا وحده يعملون على إدامة الأزمة، وإطالة الحرب، فإن مصالح الدول الراعية أوسع، ومغازيها أعمق.
والمهم أن تكاليف الحرب الباهظة يدفعها الشعب المطحون والمحروم، من دم أجياله التي تعيش الآن، ومن قوت الأجيال التي لم تطرق بعد أبواب الحياة.
لذلك أقول بقلب مطمئن وضمير مستريح إن دور الأمم المتحدة في اليمن غير نزيه وغير بريء.

الأكثر قراءة