المشاهد نت

دائرة العبثية اليمنية

نبيل البكيري

نبيل البكيري

كاتب صحافي يمني

بقدر الحضور الكبير لليمن إخباريًا على مدى السنوات القليلة الماضية، بقدر النسيان الذي بدأ يلف المشهد اليمني، ويدفع به بعيدًا عن أي اهتمامات جدية وحقيقية باليمن وما وصلت إليه من وضع مستعصٍ على الحل، بفعل تعقيداته التي تزداد كل يوم. إننا أمام مرحلة بالغة الصعوبة والخطورة معًا، أمام لحظة فارقة ذابت فيها الكثير من المفاهيم والمسميات التي كانت حاكمة للأزمة اليمنية.
يتكشف المشهد اليمني ويتفتق عن واقع أكثر بؤسًا وانقسامًا وتشظيًا من ذي قبل، مشهد يتم فيه إعادة شرعنة كل الحالات الشاذة فيه، وإعادة دمجها في المشهد اليمني من جديد، والدفع بها نحو أن تكون واقعًا طبيعيًا، يتجاوز كل ثوابت كيانية الدولة والمجتمع والناس والتاريخ والجغرافيا.
فقد تكشف لنا المجتمع الدولي عن طبيعته الكولونيالية المتجذرة فيه، ذلك المشهد الكولونيالي الذي يدير المجتمعات بالأزمات، ويسعى في خلق حالة انقسام دائمة في بنية المجتمع، تديرها سلسلة انقسامات وحلقات متوالية من الفوضى والعبثية المنفلتة التي لا يمكن حيالها سوى التسليم بهذا الوضع كأنه شيء طبيعي يجب على الناس أن تتعايش معه وتذهب معه بعيدًا.
هذا المشهد السوريالي الذي بات يخيم على الواقع واللحظة اليمنيين، بات شبه حاضر ومشاهد اليوم، وبات المجتمع الدولي متورطًا فيه حتى النخاع، ومسهمًا في حالة اللادولة واللاحرب واللاسلام، ومنخرطًا بقوة كبيرة في شرعنة كل هذه التشوهات في جدار المجتمع والدولة اليمنية المصلوبة على جذع شجرة المجتمع الدولي وأممه المتحدة.
الأكثر إيلامًا اليوم، أن حالة التشوه والتفسخ والانحلال الكبير في السياسة اليمنية، اليوم، ليست فقط إسهامات المجتمع الدولي والإقليمي الطبيعية التي ترى أن يمنًا مريضًا معتلًا مقسمًا متشظيًا، من صالحها، أو هكذا ترى، لكن الكارثة الأكثر سوءًا اليوم أن نخب المشهد اليمني كلها اليوم باستثناءات بسيطة منخرطة في حالة التيه هذا، ومسهمة في المضي بهذا المشروع إلى نهايته، وهو مجتمع يمني معتل ومنهك ومنقسم ومتداعٍ، غارق في الخراب والفوضى والخرافة.
فحالة التيه اليمنية هذه، بقدر ما هي انعكاس طبيعي للفشل الكبير الذي وصلت إليه نخبه السياسية، وارتهانها للمال السياسي الخارجي، وارتهانها لمصالح شخصية رخيصة، بقدر ما يعكس أيضًا، حالة العجز والشلل المجتمعي الشامل في كل شيء، فالمجتمعات التي تمر في حالة كهذه، قد يُصاب فيها المجتمع، وتبقى نخبه حية يقظة أمام أية محاولة ضرب المجتمع، وحماية ثوابته الوطنية، وإذا ما اعتلت النخب، يبقى المجتمع حيًا ويقظًا دفاعًا عن ثوابته وقضاياه.

لقد تورط الجميع في المأساة التي أصابت المجتمع اليمني، وباع الجميع شرفه وكرامته، وأسهم الجميع بطريقة أو بأخرى في هذه الدائرة العبثية من الفوضى اليمنية الشاملة، لكن المسؤولية الكبرى اليوم هي على هذه النخب الحزبية التي صجت أسماعنا طويلًا بالوطن والوطنية، وإذا بها أول المتنازلين والمتساقطين في دروب العمالة والإفلاس الوطني


لكن ما نشاهد اليوم في الواقع اليمني هو عكس هذا تمامًا، حالة اعتلال شاملة، للنخب والمجتمع على حد سواء، لكنها في حالة النخب أشد قتامة واعتلالًا، بحكم أن النخب تظل هي الحارسة الأمينة للأوطان في محطات اعتلالها، لكنها اليوم متمثلة بهذا الواقع المزري الذي يمر به اليمن، حيث تحولت النخبة اليمنية فيه إلى أشبه بسماسرة للبيع والشراء في القضايا الوطنية، يعرضون الوطن وجراحه وقضاياه في سوق النخاسة السياسية، ويقدمون خدمات رخيصة لكل صاحب مشروع تخريبي في اليمن للأسف.
لقد تورط الجميع في المأساة التي أصابت المجتمع اليمني، وباع الجميع شرفه وكرامته، وأسهم الجميع بطريقة أو بأخرى في هذه الدائرة العبثية من الفوضى اليمنية الشاملة، لكن المسؤولية الكبرى اليوم هي على هذه النخب الحزبية التي صجت أسماعنا طويلًا بالوطن والوطنية، وإذا بها أول المتنازلين والمتساقطين في دروب العمالة والإفلاس الوطني، تحت شعارات الواقعية السياسية، فيما الحقيقة كامنة أن الجميع يمضي لمصالحه الشخصية البحتة، وعلى حساب كل شيء بما فيه الكرامة والوطن.
ربما لم يمر على اليمن مطلقًا، مثل هذه المحطة البالغة السوء، وبخاصة في ظل التطور التاريخي للمفاهيم والقيم والمعارف التي غدت اليوم في متناول الجميع في ظل ثورة المعلومات التي في متناول الجميع دون استثناء، لكن ما نراه على أرض الواقع شيء يثير الغثيان، ويثير الحزن والاستغراب حول ما يجري وماذا أصاب القوم، لماذا كل هذا السقوط القيمي لهذه النخب.
لم تشهد الهوية الوطنية اليمنية، تهديدًا كهذا الذي تعيشه اليوم، الهوية الوطنية التي لم يعرفها اليمنيون إلا مع نشوء الدولة الوطنية الجمهورية منذ ستينيات القرن الماضي، وهي هوية الدولة الجمهورية المواطنية، الدستورية، التي تتم شيطنتها والتنكر لها، بجهل مفرط بمفهوم الهوية، والخلط بين الهوية الوطنية وهوية السلطة الحاكمة التي حكمت اليمن ما بعد قيام وتأسيس الدولة الوطنية، التي يتم تجريفها اليوم، وكل هذا يسهم في تشويه المعركة الوطنية التي يجب أن تكون في سلم أولويات الجميع.
حالة العبث لم تتوقف عند فكرة التدمير العدمي للهوية الوطنية، بل تمادى لتشويه حتى الهوية الثقافية لليمن، هذه الهوية التي تمثل الرصيد التاريخي والحضاري لهذه الأمة العظيمة، وخزان مناعتها الوطنية والتاريخية، وما تمثله من امتداد حضاري باذخ الحضور في التاريخ الإسلامي كله من السند حتى الأندلس، هذا التشويه للهوية اليمنية التي يتم تقزيمها بالحديث السطحي والغبي عن مظلومية يمنية تاريخية، متغافلين عن الأدوار التاريخية لليمنيين في صناعة الإمبراطوريات الإسلامية شرقًا وغربًا، والذين كانوا هم أهم صناعها وأبطالها.
حالة التيه والعبثية اليمنية، هي لا شك انعكاس لحالة الفشل في الحسم العسكري، وتوقف المعركة عند هذا المستوى، بفعل فقدان القرار السيادي اليمني، وبقاء اليمن رهن مزاج الحلفاء والأعداء قبل الأصدقاء، هذه الحالة التي يجب أن يغادرها اليمنيون، ويستعيدوا زمام المبادرة باستعادة قرارهم السياسي والوطني الذي وزعه الحلفاء والمجتمع الدولي على مليشيات هي نقيض طبيعي للوطنية اليمنية شمالًا وجنوبًا.
لقد بات اليوم واضحًا، أن اليمن الذي عشناه وعرفناه طويلًا، يعيش مرحلة مخاض عسير، يمن معتل منقسم متشظٍّ مفكك، تتقاسمه المليشيات ما قبل الدولة، مليشيات طائفية هي الأخطر على الإطلاق بما تحمله من عقيدة شوفينية سلالية كهنوتية، ومليشيات أخرى أقل ضررًا في تصوراتها السياسية، ويمكن إعادة دمجها في إطار المشروع اليمني الوطني في حال توفر القائد أو القادة الوطنيون الذين لا يعملون كموظفين أو كوكلاء في أحسن حال لقوى خارجية تصفي حسابات متوهمة مع اليمن الكبير أم العرب وقبلتهم وخميرتهم ورحمهم الأول.
مشكلة اليمن معقدة ومتعددة الأسباب، لكن هذه العبثية منبعها هو الغياب التام للنخبة الوطنية، الغياب التام للقائد الوطني الذي لا يقر له قرار في سبيل اليمن وحريتها وكرامتها واستقلالها، هذا القائد والقادة الذين في غيابهم تزداد وتتسع دائرة الفوضى والعبث، ويطول ليل المعاناة اليمنية القاتلة، ففي وجود هذه النخبة القيادة أعتقد أننا سنقطع شوطًا كبيرًا في مواجهة هذا العبث ودائرته المستمرة، فهل آن أوان هذه اللحظة اليمنية المنتظرة طويلًا.

الأكثر قراءة