المشاهد نت

هذا الرئيس تجنى على التاريخ

Picture of حسن العديني

حسن العديني

ولم أزل على قناعة أن قراءة مذكرات من كتبوا عن المراحل التي قضوها في خنادق النضال وفي مواقع النظام، تستوجب مقارنة الروايات لتمييز الحقيقة من الادعاء، والمعقول من اللامعقول. وللأسف أن الكثيرين ممن تمتلئ خزائنهم بالوثائق وعقولهم بالذكريات، لم يكتبوا، بينما كتب آخرون لديهم قليل من النافع وكثير من الغثاء.
القاضي عبدالرحمن الإرياني لم يكتب غثاء، وإن كان تجنى في بعض ما روى. وما كتبه في الواقع يجمع بين الذكريات والمذكرات. ولم يكن وحده في هذا المضمار، فالذين يكتبون مذكراتهم لا يجدون في العادة سجلًا وافيًا لسنوات الصبا والشباب، قبل أن تدفعهم الحياة إلى مراكز الشهرة. يستوي في هذا الذين اشتغلوا في السياسة أو الحرب، أو من عملوا في ميدان الكلمة والصورة وسواهما من ألوان الإبداع.
والقسم الذي يمكن إطلاق صفة المذكرات عليه في ما كتبه الإرياني، هو في حقيقته يوميات، فالقارئ يقف على حدث أو لقاء أو اجتماع لبحث موضوع معين، تبعته حوادث وتطورات، أو نتجت عنه تداعيات لا يجدها حاضرة أمامه، حيث تنقله السطور التالية إلى حكايه أو خبر آخر، ثم لا يعثر على تطورات الحوادث إلا في مواقع متناثرة بحسب ما جرت به الأيام.
لا غضاضة في هذا، إذ يكفي أنه لم يبخل على التاريخ، وإن تجنى وافترى واتبع هواه.
وأتذكر أنه في الجزء الثاني لم يقدر على إخفاء شماتته بمصر جراء هزيمة يونيو ١٩٦٧، وفي هذا الجزء الثالث قسا بشدة على صديقه ورفيق دربه الأستاذ أحمد محمد نعمان، وأراد أن يشهر ببعض مواقفه، فبرر وكرر أنها أثر الزنزانة، للتذكير بأن القاهرة حبست مجموعة من السياسيين والعسكريين المناهضين لوجود الجيش المصري في اليمن.
والحق أن الناس قد يختلفون في تقدير ما جرى، بل إن هذا الاختلاف يراود الشخص الواحد مثلما هو الحال عندي، فأنا أراه مرة نوعًا من الانتهاك لسيادة اليمن، ثم أراه مرة أخرى تصرفًا، مبررًا ذلك أن مصر ألقت بجيشها وعتادها وأموالها كي تنصر الثورة اليمنية؛ استجابة لطلب الثوار أنفسهم، فإذا هي تجد بينهم من يشق الصف، ويخدم أعداء الثورة بالوعي والتصميم أو بالسذاجة والحساسية من زملائه الآخرين. مع هذا فإن السلطات المصرية استثنت عبدالرحمن الإرياني، وعاملته بكرامة، فلم تودعه السجن، واكتفت باحتجازه في مصر، هيأت له إقامة باذخة في فيلا، دون أن تمنعه من الحركة على طول البلاد وعرضها. رغم ذاك فإن القاضي حمل غلًا عبر عنه في مواضع شتى.

السلطات المصرية استثنت عبدالرحمن الإرياني، وعاملته بكرامة، فلم تودعه السجن، واكتفت باحتجازه في مصر، هيأت له إقامة باذخة في فيلا، دون أن تمنعه من الحركة على طول البلاد وعرضها. رغم ذاك فإن القاضي حمل غلًا عبر عنه في مواضع شتى.


مثل هذا الغل لم يحمله إبراهيم الحمدي، على سبيل المثال، وقد نزل مع النعمان والآخرين السجن الحربي في القاهرة. وليست الدلالة على صفاء قلبه أنه انتمى للتنظيم الناصري بعد أن تولى الحكم، لكنه قبل ذاك حمل خطابااه للشعب ليلة ٢٦ سبتمبر، على مدى أربع سنوات، تذكيرًا بدور مصر، واعترافًا بفضلها حين شفع طلب الرحمه لشهداء الثورة بالدعاء نفسه لشهداء مصر.
ثم تتكرر ضغينة القاضي في مواضع عديدة، فهو يشكو من تأخر شحنات السلاح السوفيتي للجمهورية العربية اليمنية، ويتهم الجمهورية العربية المتحدة بأنها وراء ذلك، وأحيانًا يقول إن السفير السوفيتي نقل إليهم هذا. والقاضي يفسر الأمر بأن المصريين يتمنون سقوط النظام الجمهوري، حتى يتأكد أن صموده وبقاءه كان محسوبًا بوجودهم. وليس لهذه الرواية من تفسير سوى أن جمال عبدالناصر صاحب عقل صغير، أو أن عبدالرحمن الإرياني… (أترك للقارئ أن يختار الوصف الذي يراه). لكن بأي حساب وبأي تفكير يصعب القول إن الاتحاد السوفيتي، القوة الثانية الأعظم في العالم، يخضع في سياساته لرغبات دولة أخرى، حتى وإن كانت دولة صديقة، ثم إن جمال عبدالناصر أكبر من أن يتردى في هذا المنحنى، وماذا سيكون شأنه أمام أصدقائه السوفييت، وهو يجاهد لشدهم إلى المعركة الكبرى في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وأنا سمعت الأستاذ علي لطف الثور يتحدث في ندوة نظمها مركز الدراسات و البحوث اليمني، عن حصار السبعين يومًا، أن جمال عبدالناصر طلب من الرئيس الجزائري هواري بومدين، تقديم الدعم للجمهورية العربية اليمنية، تعويضًا عن مصر في ظروفها القاسية. الندوة صدرت في كتاب، وعلي لطف الثور ليس ناصريًا، بل هو محسوب على حزب البعث، و كانت علاقة البعث بجمال عبدالناصر دائمًا معقدة وشائكة.
لكن الإرياني بعد كل الافتراء لم يجد غير الحقيقة وهو يتحدث عن جمال عبدالناصر، ففي موضع آخر سيقول إن عبدالناصر هنأه بالحفاظ على النظام الجمهوري عند التقائه به في آخر قمة عربية قبل وفاة عبدالناصر بأربعة أيام. قال: “لقد أبيتم أن تذهب الضحايا والشهداء من المصريين واليمنيين سدى، حينما حافظتم على النظام الجمهوري، وأريدكم أن تطمئنوا، وإذا كنا لا نسأل فلأننا مشغولون بأنفسنا”.
ثم حين راح يودعه يقول الإرياني عن ناصر: “لقد كان بالغ التهذيب”.
قبل ذلك يعترف الإرياني بأنه حرص أن يمنع عنهم أي إرباك عندما أراد السلال أن يعود مع زملاء له إلى عدن ليفتحوا جبهة ضد صنعاء، وأرسل الإرياني لعبدالناصر، فوجه بإبلاغ السلال أنه يستطيع أن يخرج من مصر إذا أراد، لكنه لن يدخلها ثانية، فإذا قرر عليه أن يمشي مع عائلته.

القاضي يتخلى عن الأمانة والصدق في رواياته عن حادثة قتل عبدالرقيب عبدالوهاب، فهو يذكر أنه جراء نفي الضباط المسؤولين عن أحداث أغسطس إلى الجزائر، على أن يعودوا بعد ثلاثة أشهر، ليتولوا مناصب ثانوية، لكنهم بكروا بالعودة، وأن عبدالرقيب رجع إلى صنعاء وإلى وحدته (الصاعقة)، وأراد أن يعدها مع المظلات لجولة ثانية


والقاضي يتخلى عن الأمانة والصدق في رواياته عن حادثة قتل عبدالرقيب عبدالوهاب، فهو يذكر أنه جراء نفي الضباط المسؤولين عن أحداث أغسطس إلى الجزائر، على أن يعودوا بعد ثلاثة أشهر، ليتولوا مناصب ثانوية، لكنهم بكروا بالعودة، وأن عبدالرقيب رجع إلى صنعاء وإلى وحدته (الصاعقة)، وأراد أن يعدها مع المظلات لجولة ثانية، فإذا ما فشل سوف يسحبهما بكامل أسلحتهما إلى الجنوب. ويضيف أن الفريق العمري جاءه يعتب، فوعده بمعالجة الموضوع، واستدعى عبدالرقيب، وأمره بأن يتفاهم مع القائد العام إذا أراد أن يبقى في وحدته، وبأنه ذهب إليه بالفعل، وتفاهم، ورجع إلى الوحدة، ولكن “سرعان ما عادت حليمة لعادتها القديمة”.
يتابع الإرياني أن الفريق العمري استدعى عبدالرقيب، وأوقفه لدى الحرس، ولكنه تمكن من الفرار إلى بيت العقيد علي سيف الخولاني، فأمر القائد العام بمحاصرته، وأن جنودًا من الصاعقة والمظلات تولوا المهمة. يقول أيضًا إنه أراد التدخل لصالح عبدالرقيب، فبعث له أمانًا على حياته وشرفه، فرفض، واتصل الإرياني بالقائد العام، يؤكد عليه إلزام المحيطين بالبيت بتجنب الاستفزاز، والاكتفاء بالحصار إلى أن يستسلم، “وبينما نحن في الحديث مع الفريق العمري، وهو يؤكد على أنه حريص بألا يمس عبدالرقيب بسوء، إذا بأحد الضباط يصل ويقول إن عبدالرقيب غافل المحاصرين له، وأطلق الرصاص، فجرح جنديًا من الصاعقة، وقتل آخر من المظلات، وقتل.
وقد اختلفت الروايات في قتله، فالعقيد علي سيف الخولاني يؤكد أنه انتحر حينما شعر أنه لا بد من القبض عليه، وكان قد نفد كل ما في رشاشه من ذخيرة، فأطلق الطلقة الأخيرة على نفسه”.
لو أن هذه الرواية كتبت بقلم أحد الضباط المغموسين في وحل الطائفية ممن شاركوا، لهان الأمر. أما وأنها رواية القاضي الإرياني فأمر يبعث على الأسف، وعلى السخرية إلى حد الازدراء. وليس مرد هذا أن القاضي شخص متدين يفترض فيه مقت رذيلة الكذب، وإنما لأنه قبل وبعد أي شيء، رئيس الدولة، والحارس الأول للقانون.
واضح أن الرواية متناقضة وغير متماسكة. على أن القاضي يتوقف هنا ولا يقول إنهم مثلوا بجثة عبدالرقيب في ميدان التحرير، أولئك الأبرياء الذين لم يريدوا أن يمسوه بسوء.
ولقد أردت أن أعرف فوق ما كنت أعرف، وسألت الصديق اللواء يحيى الكحلاني، وكان ضمن الضباط الذين نفوا إلى الجزائر، عما إذا كانت الصاعقة بقيت بدون قيادة حتى يرجع عبدالرقيب من منفاه، ويدخل معسكره في جبل عيبان، ويحاول استئناف ما حدث في أغسطس فأنكر الرجل أن يكون عبدالرقيب عاد، ودخل معسكر الصاعقة، حيث خلفه ضابط من مأرب في قيادة الوحدة. قال إنه كانت هناك وشايات وتحريض من بعض الضباط الذين عادوا معهم من الجزائر، لدى الفريق العمري، وأنه استدعى عبدالرقيب، واحتجزه بالفعل، لكنه استطاع الهرب، واختفى في منزل علي سيف الخولاني. ونفى يحيى الكحلاني تمامًا أن يكون الخولاني غدر به، كما كان الظن عندي، وكما هو شائع.
قال إن علي الخولاني وحسين الدفعي أرادا إخفاء عبدالرقيب حتى يتدبر له مخرجًا، وأن القاضي عبدالسلام صبرة عرف بالأمر، فوشى لدى الفريق الذي أرسل طقمين من العسكر ليسوا من الصاعقة والمظلات، كما ادعى القاضي، وأنهم بعد أن قتلوه سحلوا جثته في الطريق من بيت علي سيف الخولاني في الصافية، إلى ميدان التحرير، وهناك صلبوه على جدار وزارة المواصلات، حتى جاء الشيخ أحمد علي المطري، وأخذه، وراح يدفنه.
أين؟
حتى الآن، لا أحد يعرف قبر بطل السبعين، بينما يرقد في مقبرة الشهداء أشخاص ماتوا في غرف مستشفيات ألمانيا.
ولأن حادثة عبدالرقيب معروفة وذائعة، فإن سردها على النحو الوارد في مذكرات القاضي الإرياني، يلقي بظلال كثيفة من الشكوك على كثير مما تضمنته، ويؤكد موقع الرجل وعهده في المكان المظلم والموحش في التاريخ.

الأكثر قراءة