المشاهد نت

الجمهورية تعويذة اليمنيين الخالدة

نبيل البكيري

نبيل البكيري

كاتب صحافي يمني

شكلت الجمهورية لليمنيين كنظام سياسي، مخرجًا تاريخيًا فارقًا، أسدلوا به الستار على قرون من الاستبداد والتخلف والهمجية والانحطاط، فكان إعلان الجمهورية بمثابة إعلان مولد اليمن من جديد، ومن هنا تأتي أهمية النظام الجمهوري وخصوصيته يمنيًا كونه نابعًا من تجربة مريرة وقاسية لليمنيين مع الاستبدادين الديني والسياسي، ممثلًا بالإمامة الزيدية شمالًا، والسلطانات المشيخية جنوبًا وشرقًا.
ولهذا مثلت الجمهورية يوم إعلانها قفزة كبرى في تاريخ اليمن المعاصر، كونها جاءت كخلاصة كفاح طويل ضد كل أشكال الاستبداد والتخلف والخرافة والرجعية والعصبية والكهانة، فكان الذهاب إلى الجمهورية يعني قبل كل شيء الانعتاق من الماضي بكل سوداويته، ووضع حد لذلك الماضي الأسود البعيض الذي جمد الإنسان اليمني في لحظة زمنية توقف عندها التاريخ لقرون طويلة، مما جعل اليمن وهي مهد حضارة تعود للوراء قرونًا من الزمن.
لم تكن فكرة الجمهورية كخيار نضالي وطني، مجرد نزوة سياسية لشباب الحركة الوطنية اليمنية شمالًا وجنوبًا، وإنما كانت بالنسبة لهم قدرًا وقرارًا ومصيرًا لا مهرب منه، ولا بد عنه، باعتباره الحل الوحيد لكل مشكلات اليمن وأزماته وأمراضه الاجتماعية المتراكمة، والتي كان في مقدمتها مرض الإمامة الزيدية وكهنوتيتها التي جثمت على صدور اليمنيين طويلًا، كعامل إقلاق وبؤرة صراع وتوتر دائم لليمن واليمنيين معًا.

لم تكن فكرة الجمهورية كخيار نضالي وطني، مجرد نزوة سياسية لشباب الحركة الوطنية اليمنية شمالًا وجنوبًا، وإنما كانت بالنسبة لهم قدرًا وقرارًا ومصيرًا لا مهرب منه، ولا بد عنه، باعتباره الحل الوحيد لكل مشكلات اليمن وأزماته وأمراضه الاجتماعية المتراكمة، والتي كان في مقدمتها مرض الإمامة الزيدية


ومن هنا، كانت فكرة الجمهورية، بالنسبة لليمنيين، بمثابة عقيدة الخلاص السياسي والفكري والاجتماعي والثقافي، أي كانت الجمهورية بمثابة التعويذة التي تحتاجها اليمن لفك طلاسم التخلف المضروبة حولها، وفك وثاقها وكسر قيودها المكبلة بها، كي تدفع باليمن نحو آفاق أكثر رحابة وأمانًا، ويستعيد اليمنيون ثقتهم بأنفسهم وتاريخهم وإرثهم وإرادتهم، تلك الإرادة التي كُبلت وحُطمت طويلًا بفعل معاول الجهل والتخلف والمرض والفقر الذي كان رفيقًا دائمًا للإمامة الزيدية ومخلفاتها.
وهكذا كانت الجمهورية هي مفتاح السر، في استعادة اليمنيين لإرادتهم، التي تمكنوا من خلالها من إسقاط نظام الإمامة الذي جثم على صدور اليمنيين طويلًا، وطردوا واحدًا من أخطر الاحتلالات، وهو الوجود البريطاني في جنوب اليمن، وإعادة توحيد جنوب اليمن تحت مسمى واحد كان عنوانه جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي كانت عبارة عن ٢١ سلطنة ومشيخة، ومثلها في الشمال سبق إعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية.
لقد كان تبني النظام الجمهوري كنظام سياسي في اليمن بمثابة ثورة تنويرية قبل أن تكون ثورة سياسية مسلحة، نظرًا لما كان يحيط باليمن من ظروف التخلف المتراكمة لعقود وقرون طويلة، فكانت الجمهورية في اليمن هي مدخل تنويري قبل أن تكون مطلبًا سياسيًا، لأن اليمني الذي كان يرسف تحت قيود الجهل والفقر والمرض، لم يكن يدرك قبل الجمهورية حتى معنى السياسة، فضلًا عن حديثه عن نوعية النظام السياسي الحاكم.

حررت الجمهورية اليمنيين والإسلام معًا من أسر الخرافة والجهالة، وأعادت للإسلام معناه التنويري المضيء كدين جاء لتحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، وتحريره من ظلام الجهالة والكهانة والدجل والشعوذة.


ما أحدثته الفترة الجمهورية بكل ما اعترى مسيرتها من فشل وإخفاق يفوق الخيال، لقد دفعت باليمن من قعر الماضي السحيق إلى بوابة المستقبل، لقد فتحت الجمهورية عقول وأذهان اليمنيين على العالم بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، لقد حررت الجمهورية اليمنيين والإسلام معًا من أسر الخرافة والجهالة، وأعادت للإسلام معناه التنويري المضيء كدين جاء لتحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، وتحريره من ظلام الجهالة والكهانة والدجل والشعوذة.
لو لم يكن للجمهورية إلا أن أعادت تعريف الإسلام في اليمن بمعناه التنويري التحريري، لكفى، الإسلام الذي كان محصورًا بتصورات الإمامة والإمام، وأنه عبارة عن رضا الإمام وغضبه، فإن رضي عنك الإمام فأنت في خير، وإن غضب عنك فأنت في شر مستطير، ومثله ينطبق على السلطنات وغيرها.
ولهذا لم تكن الجمهورية كما قلتُ سابقًا مجرد فكرة عبثية أو حالة نزق لشباب الحركة الوطنية اليمنية، وإنما أيضًا كانت هدفًا تنويريًا قبل كل شيء، كخلاصة مسار طويل من التنوير الفكري والديني والثقافي الذي شقه أعلام اليمن الكبار ومصلحوها الأخيار من لدن الهمداني مرورًا بنشوان الحميري ومحمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي والجلال والشوكاني، وصولًا حتى الزبيري والنعمان.
أي أن الجمهورية في اليمن، كانت خلاصة الخلاصة لمسار طويل من تجديدية الحركة الإصلاحية اليمنية، التي أشعلت جذوة التنوير، ليس في اليمن فحسب، وإنما في طول العالم الإسلامي وعرضه، والذي كان غارقًا في أتون عصور التخلف والانحطاط، الذي كانت تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية بفعل الاستعمار، وقبله بفعل حالة التخلف الفكري والتراجع الحضاري الذي كان حاكمًا لهذه المجتمعات ردحًا من الزمن.
لا يمكن الحديث عن الجمهورية وما أحدثته في اليمن دون أخذ صورة ونظرة عن اليمن قبل إعلان قيام الجمهورية، حيث كان الجهل هو الشيء السائد، حيث كان عدد من يجيدون القراءة والكتابة على عدد أصابع اليد، وكانت اليمن كلها لا تكاد يوجد فيها سوى مدرستين اثنتبن، أو ثلاث بالكثير، ومثلها خارج سلطة الإمامة، وهي خاصة ومحصورة بأبناء الأسرة الحاكمة وحاشيتهم فقط، أما في العصر الجمهوري فقد وصلت المدارس لكل قرية يمنية، وكذلك الطرق والمستشفيات، حتى ولو كان معظمها بجهود أهلية، فيكفي أن الجمهورية هي التي دفعت الناس للالتحاق بالنور وشق طريقهم نحو المستقبل.
أما اليوم، ورغم كل ما حدث من ارتكاسة للنظام الجمهوري -بفعل من تسللوا إلى قيادة الجمهورية من خارج ثلة مناضليها الحقيقيين- وحالة الارتداد التي سقطت فيها اليمن، لكن لاتزال فكرة الجمهورية وفكرها التنويري هو اليوم الحامي والمقاوم والممانع لكل هذه الهمجية والعنصرية والماضوية الإمامية التي تترصد اليمن واليمنيين، لايزال الفكر الجمهوري يحاصر حتى الإمامة نفسها، ويمنعها من أن تستعيد مقاولاتها السياسية في ما يتعلق بشكل النظام السياسي الذي تسعى لفرضه على الناس، فلاتزال الإمامة نفسها اليوم تتستر خلف بقايا وصورة النظام الجمهوري.

الأكثر قراءة