المشاهد نت

تأملات في أبعاد أزمة مأرب الثلاثة

Picture of مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب صحافي

تغتلي في اليمن أحداث متعاقبة في كل بلدة وكل مدينة من أقصى شمالها الشرقي وحتى آخر ذؤابة في جنوبها الغربي. وهي أحداث خلفتها حرب طاحنة ماتزال تعمّق وتوسع آثارها في المجتمع اليمني في سلسلة لا متناهية من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وانسداد أفق وعطالة جيل كامل عن الأمل. لعل آخر هذه الأحداث هي أزمة مأرب المتعلقة بممانعة المستفيدين لتسعيرة الوقود الجديدة. تخرج مفاعيل هذ الأزمة عن الإطار المحلي إلى إطار وطني، وتستدعي التفاعل معها قلقًا أو تربصًا.

دون الخوض في تفاصيل وتسلسل أحداث هذه المشكلة والحلول المقترحة للمعالجة، أريد لفت النظر إلى أبعاد هذه الأزمة على مستويات ثلاثة: آفاق استقلالية الإدارة المحلية للموارد في الوقت الراهن، السلام المرسوم على صيغة تقاسم ثروات، وإدارة الموارد الوطنية السيادية.

آفاق استقلالية الإدارة المحلية للموارد في الوقت الراهن

منذ 2011، بدأت قبضة المركز الإداري في صنعاء تخف تدريجيًا دون أن تضمحل كليًا، وترسخت فكرة الفيدرالية كحل لمعالجة فساد المركز والمشاركة في الحكم والثروة. إلا أن استيلاء الحوثي على السلطة في خريف 2014، كان ضربة قاتلة للنظام الجمهوري اليمني، فتحت كل الشرور التي تهدد كيان وسلامة الدولة اليمنية.

تصاعدت النزعة الانفصالية أو الاستقلالية، وانقسم اليمن في خمس وحدات إدارية واقتصادية متعددة يظهر في فوراق أسعار السلع الأساسية وقيمة العملة الوطنية وسياسات بيع المحروقات وأسعار الخدمات العامة كالكهرباء. تنامت شهية السلطة المحلية على حساب الحكومة، وابتعدت بعض المنافذ لبعض من الوقت في إدراج نشاطها في إطار وطني كلي. وكان النابض هو سياسة الرئيس السابق هادي، التي منحت -دون صيغة دستورية- المحافظات النفطية حصة مباشرة من عائدات النفط لأجل التنمية المحلية.

لذا، ظنت بعض المناطق اليمنية أنه يمكنها الاستقلال بمواردها المحلية وكتلتها السكانية، حتى إنها أسبغت على كتلها السياسية المحلية صفة الوطني في وضع متخيل وتكتيكي.

لكنها تجاهلت ثلاثة أمور:

 أولًا، أن الموارد المحلية متذبذبة وهشة وعرضة لتقلبات الصراع اليمني. وهكذا، على سبيل المثال، فقدت حضرموت امتيازها في هذا الجانب لمجرد توقف تصدير النفط بعد قصف الحوثي للمنشآت، فعادت إلى الحكومة المركزية تطالبها بالوفاء بالتزاماتها، أو قررت عدم توريد إيراداتها المحلية مركزيًا.

ثانيًا، أن الخدمات العامة إلى اللحظة لا تسير إلا بصيغة تكاملية بين موارد الدولة المركزية والموارد المحلية التي تشرف عليها الحكومة المركزية من عدن. شاهدنا كيف سقطت ادعاءات بعض الأصوات الانفصالية بأن هناك امتصاصًا لموارد الجنوب نحو مناطق أخرى، وتبين أن كهرباء عدن -رغم محدودية التشغيل- لا تعمل إلا بوقود مأرب، وأن الإيرادات المحلية لا تفي بالتزامات أيام محدودة.

ثالثًا، أن التنمية بمعناها الحقيقي -وليس طلاء أرصفة ورفع أعلام محلة ودولية- تحتاج إلى موارد أكبر مما هو متوفر وطنيًا الآن، وإلى أيدٍ عاملة وعقول مشغلة وطنية أكبر مما يتيح سوق المحافظة. لنا العبرة في أن دول الجوار لا تستطيع بسواعد أبنائها فقط تحقيق التنمية المطلوبة. حتى الصين توطن مهاجرين وكفاءات نوعية. أي أن الكتل المحلية اليمنية تسير عكس المنطق الإقليمي والعالمي.

وأهم من ذلك أن الحرب التي لم تتوقف، تقتضي الاستعداد للدفاع عن الموارد النفطية من أطماع الحوثي المعلنة. وهذا لا يتم إلا ببناء وحدات عسكرية مهنية ذات قرار وهيكل موحدين يتدافع داخله اليمنيون من كل المناطق لصد هجمات الحوثي كما هو الحال في مأرب. أي أن التفكير في إطار ضيق محلي لا ينسجم والتحديات الوجودية للحظة الراهنة.

الجهود الرامية لإحلال السلام في اليمن، والتي كشفت التسريبات عنها أنها تركز على إرضاء طرف من أطراف الصراع اليمني وتلبية متطلباته من موارد بعض المحافظات دون اكتراث للحقيقة الإدارية التي تشكلت والوعي المحلي التي نشأ منذ اندلاع الحرب.

يؤسفني أن هناك تنظيرًا، بل مساعي منظماتية لرفع النظم الإدارية في بعض المحافظات من الأسفل، وتجاوز السلطة المركزية، دون اعتبار لهذه التحديات في جوانبها الاقتصادية أو السياسية والأمنية. لدي أفكار كثيرة يمكنني تبادلها مع المهتمين في هذا الشأن برحابة صدر.

السلام المرسوم على صيغة تقاسم ثروات

تتناول النقطة الثانية الجهود الرامية لإحلال السلام في اليمن، والتي كشفت التسريبات عنها أنها تركز على إرضاء طرف من أطراف الصراع اليمني وتلبية متطلباته من موارد بعض المحافظات دون اكتراث للحقيقة الإدارية التي تشكلت والوعي المحلي التي نشأ منذ اندلاع الحرب.

يرفض أبناء مأرب التسليم لقرار الحكومة بالزيادة السعرية. أي أنهم يرفضون التنازل عن بعض امتيازات اقتصادية اكتسبوها في سنوات الحرب لحكومة مركزية هي منهم ولم تحاربهم عمليًا، فكيف سيقبلون بتقاسمها مع الحوثي الذي يحاصرهم وتقف جحافله على أبواب مدينتهم استعدادًا لاقتحامها؟

الأمر لا يخص مأرب، بل ينطبق تمامًا على محافظات يمينة أخرى لديها مواردها النفطية أو موانئ وجمارك.

ثم كيف يبنى سلام على أساس إنساني في المقام الأول، لا تسهم الدول المنخرطة في بناء السلام في معالجة هذا الملف، إنما يراد تحميل حكومة بموارد محدودة ومستنزفة هذا العبء؟

لا ننسى أن هذه الحكومة تشكّلت بوعود تقديم ثلاثة مليارات دولار إسعافية طارئة كي تستطيع البقاء على قيد الحياة، ولم يتم الوفاء بهذه الوعود. عليه، أول خطوة للسلام هي الوفاء بوعود الدعم قبل كل شيء. إلا إذا أردنا سلامًا بين جماعة متأهبة للحرب وحكومة على موقد الاختناق المالي.

إدارة الموارد الوطنية السيادية

وثالثة الأثافي، هي أن الأزمة الحادة والمنذرة بتداعٍ خطير على الصعيدين الأمني والسياسي في مأرب، لها أكثر من عنوان اعتراضي على طريقة إدارة الثروة الوطنية في البلاد. أقول هذا اعتبارًا بحسن نيات الاعتراض، مع علمي الكامل أن الأزمة كانت أيضًا تجسيدًا لصراع نفوذ وتضارب مصالح، دون تجاهل يد الحوثي الملطخة في بث الاضطرابات الاجتماعية.

ورثت السلطات ميراثًا ثقيلًا من هدر الموارد وتوزيع الثروات على شكل هبات وتأليف قلوب وسوء إدارة. وفي مأرب، كما في شبوة، يسود منطق مخالف لما هو عقلاني. بينما تسعى الدول النفطية في العالم كله إلى ابتكار مسار اقتصادي لما بعد النفط وتنويع الموارد، يجري العبث وهدر الثروات النفطية والإصرار على اتباع سياسة اقتصادية ريعية لا تفكر بأبعد من أرنبة الأنف، ولا بحقوق الأجيال القادمة من الثروة.

حسب علمي، فإن طريقة إدارة هذه الثروة هي الأسوأ منذ ظهور هذه النعمة/ النقمة. تفتقر المنشآت إلى سياسة سلامة صارمة، وتهدر الأموال والنفط في عبث لا يراعي ضرورة صيانة الآبار والمعدات، وتحديث تقنياتها، وتقليص الفاقد.

بمعنى آخر، إن معالجة الأزمة تبدأ بتحسين طريقة إدارة هذه المنشآت، ومعالجة تلف الرأس الإداري. حل الأزمة يبدأ من إعادة النظر بقيادة صافر. ينبغي على الحكومة أن تتعامل بمنتهى الحرص على الموارد الوطنية، وألا تبذر بأية قطرة نفط. فالنفط يقتضي سياسة ما بعده، ومعالجة الجوانب البيئية الكارثية له.

الأكثر قراءة