المشاهد نت

مشاكسة عند البحر

Picture of حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

أيًا ما كانت نوايا جماعة الحوثي من الضربات التي توجهها لسفن تجارية على البحر الأحمر وخليج عدن، فإنها تقوم بمشاكسة تنطوي على الكثير من الإثارة.

من الناحية العسكرية، ليس هناك تأثير على مجريات الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

ومن الناحية الاقتصادية، فليس من شك أنها أحدثت أثرًا سيئًا على النشاط في ميناء إيلات، حيث انخفض بنسبة ٨٥٪،؜ كما أعلن مدير الميناء جدعون جولبر ، لكن حجم الضرر على الاقتصاد الإسرائيلي محدود بالنظر إلى أن طاقة الميناء وحركة التجارة فيه ليست بأهمية ميناءي “حيفا” و”أسدود”  الواقعين على البحر الأبيض المتوسط. وينحصر نشاط إيلات بالدرجة الأولى على واردات السيارات وصادرات الباتس، وإسرائيل تستطيع أن تنتظر وتستطيع أن تتحمل فارق تكاليف النقل عبر رأس الرجاء الصالح.

لكن إسرائيل يريحها على نحو ما تقلص حركة الملاحة في البحر الأحمر، لتأثيره الكبير على الاقتصاد المصري جراء انخفاض عائدات قناة السويس التي تسهم بنسبة عالية في الدخل القومي المصري. وبحسب أسامة ربيع، رئيس هيئة القناة، فإن عائداتها انخفضت بنسبة ٤٠٪؜ في النصف الأول من شهر يناير الجاري.

إن مصر القوية هي الخطر  الذي لا تريد إسرائيل أن تواجهه على الدوام. وفي الذاكرة رواسب عميقة من العداء خلال فترة وجود بني إسرائيل في مصر منذ دخلوها أثناء حكم الهكسوس المحتلين، حتى تم طردهم على يد الفرعون مرن بتح، ابن رمسيس الثاني العظيم.

ومنذ قامت إسرائيل ظل هاجس قادتها إقامة علاقات مع مصر وإضعافها في نفس الوقت. وحين زار وفد أمريكي القاهرة عقب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، سأل الحكام الجدد عن موقفهم من إسرائيل، فقيل له إنهم غير مشغولين بأمرها، وأن اهتمامهم موجه لبناء بلادهم، ونقل المسؤول الأمريكي ما سمعه لرئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن جوريون، فقال إنهم بهذا التفكير خطر حقيقي على إسرائيل.

وتلقى جمال عبدالناصر وعودًا وضغوطًا من الولايات المتحدة من أجل لاعتراف بإسرائيل، وأدى الرفض إلى سحب تمويل لأجل السد العالي، وما تلاه من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي حتى عدوان  ١٩٦٧، ثم الصمود الأسطوري والبناء الجديد لجيش مصر خلال حرب استنزاف إلى العبور العظيم.

الضربات الحوثية بقدر ما أصابت اقتصاد مصر، فإنها أحدثت إرباكًا في الممر الذي تعبر منه ١٢٪؜ من التجارة الدولية، تسبب في تأثير قاسٍ على الاقتصاد العالمي، بعكس ما صرحت به مديرة صندوق النقد الدولي كريستا لينا غورغييفا. فقد ارتفعت تكاليف الشحن وأجور النقل ورسوم التأمين

بعد ذلك حصلت إسرائيل ساعة الهزيمة على ما لم تنله في نشوة النصر، حيث ذهب أنور السادات إلى القدس، في رحلة ساقته إلى كامب ديفيد، وأوصلت الصراع العربي الإسرائيلي إلى ما نراه اليوم.

على أن الضربات الحوثية بقدر ما أصابت اقتصاد مصر، فإنها أحدثت إرباكًا في الممر الذي تعبر منه ١٢٪؜ من التجارة الدولية، تسبب في تأثير قاسٍ على الاقتصاد العالمي، بعكس ما صرحت به مديرة صندوق النقد الدولي كريستا لينا غورغييفا. فقد ارتفعت تكاليف الشحن وأجور النقل ورسوم التأمين، مما دفع كبريات شركات النقل إلى التوقف عن المرور من البحر الأحمر، والدوران حول إفريقيا، وتسبب ذلك، علاوة على ارتفاع التكاليف، في تأخير وصول البضائع، وترتب على هذا عواقب وخيمة منها لجوء بعض المصانع إلى الإغلاق المؤقت بسبب نقص بعض القطع.

لا تتوفر أرقام دقيقة عن خسائر  اقتصاديات الدول المختلفة، والمؤكد أن الدول التي يمر القسم الأكبر من بضائعها عبر المحيطين الهادي والأطلسي، وحتى عبر الأطلسي إلى المحيط الهند  (بين الأمريكتين وآسيا) هي الأقل تضررًا، بمعنى أن دول أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا ونيويزلندا لن تخسر كثيرًا بالمقارنة بدول آسيا وأوروبا، وعلى وجه التحديد فإن الضرر محصور في المبادلات بين آسيا وأوروبا، وبين هذه الأخيرة وشرق إفريقيا. وقد يكون في هذا ما يسعد الولايات المتحدة، حيث يتعرض اقتصاد الدولة المزاحمة (الصين) لخسائر فادحة.

غير أن الولايات المتحدة، رغم هذا، حريصة على الاحتفاظ بموقعها المتسيد على العالم. ولما كانت من هذا الموقع تحشر نفسها في الشؤون الداخلية لكل بلد، فلا بد للضرورة أن تتحرك حين يتهدد الأمن في منطقة كانت ولاتزال عقدة حركة المواصلات في العالم.

ومن ناحية أكثر أهمية، سيبدو الصمت والتجاهل عجزًا مهينًا أمام إيران المتمردة. لهذا شكلت الولايات المتحدة ما سمته التحالف لحماية الازدهار، ثم قامت بتوجيه ضربات محدودة بالاشتراك مع بريطانيا، دون أن يرتدع الحوثي، فعادت وضربت ثانية.

الإدارة الأمريكية أبلغت الحوثيين، قبل ٢٤ ساعة، بقرار الضربة وبالمواقع المستهدفة، والمعنى أنها لا تريد إلحاق أضرار كبيرة بالحوثيين، على الأقل فهي تتفادى إضعافهم إلى درجة الإخلال بتوازن القوى في الداخل اليمني لمصلحة الحكومة الشرعية، وربما لا تريد مطلقًا أن تكسر الذراع الطويلة للحوثي إلى درجة فقدانه القدرة على توجيه ضربات لجيرانه

لكن الإدارة الأمريكية أبلغت الحوثيين، قبل ٢٤ ساعة، بقرار الضربة وبالمواقع المستهدفة، والمعنى أنها لا تريد إلحاق أضرار كبيرة بالحوثيين، على الأقل فهي تتفادى إضعافهم إلى درجة الإخلال بتوازن القوى في الداخل اليمني لمصلحة الحكومة الشرعية، وربما لا تريد مطلقًا أن تكسر الذراع الطويلة للحوثي إلى درجة فقدانه القدرة على توجيه ضربات لجيرانه من الدول المنخرطة في ما سمي التحالف لدعم الشرعية في اليمن.

بين الذين تطيروا من الربيع العربي كان محمد حسنين هيكل هو الذي رأى فيه “سايكس بيكو ” جديدة. ولم يتولد عن سايكس بيكو تقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا، وإنما الأخطر منه فقط صدور وعد بلفور بإعطاء فلسطين وطنًا قوميًا لليهود. وفتحت الإدارة البريطانية أبواب فلسطين أمام اليهود الذين هبوا من كل الأصقاع، ويوم قررت بريطانيا إنهاء الانتداب، والانسحاب من الأرض المقدسة، كانت قد اطمأنت إلى أن اليهود جاهزون بجيشهم في الأرض والجو والبحر، وبجهدهم الحكومي والقضائي وقوة البوليس والمخابرات وجميع مقتضيات الدولة الحديثة. وكانت عصابات الهاجاناه تشن هجمات خاطفة على المدن والقرى الفلسطينية، وعلى الدوائر الحكومية، وتفتك بالسكان قتلًا وتهجيرًا. وبمجرد إتمام انسحاب البريطانيين أعلن بن جوريون قيام دولة إسرائيل.

التاريخ لا يعيد نفسه كما قال كارل ماركس، وإذا حدث فإنه في المرة الأولى مأساة مدوية، وفي المرة الثانية ملهاة مسلية.

ولست أقول هنا إن التاريخ كرر نفسه، ولكن المشابهة ماثلة، وهي مأساة في المرة الأولى، ومأساة في المرة الثانية. فهناك في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، استخدمت بريطانيا الشريف حسين لقيادة ما عرفت بالثورة العربية الكبرى، مقابل وعد بتمكينه من مملكة عربية واسعة، وفي السنة نفسها وقع وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس بيكو.

هذه المرة، وفي بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، استخدمت الولايات المتحدة، ومعها الدوائر الاستعمارية الحليفة، الإخوان المسلمين للقيام بثورات في بلدان محورية في العالم العربي، بعضها تخضع لأنظمة مستقلة ومقاومة للتبعية، وبعضها حليفة وتابعة للولايات المتحدة، والهدف لا يختلف، مزيد من التمزيق والتقسيم للبلاد العربية، واستكمال تهويد فلسطين. وقد وصل الأمر إلى تدخل سافر للناتو في ليبيا، وإلى وجود عسكري للولايات المتحدة وتركيا في سوريا، لولا أن روسيا تنبهت إلى أنها وقعت في خديعة عندما لم تعترض على قرار مجلس الأمن بإغلاق أجواء ليبيا على الطيران العسكري الحكومي، ذلك القرار الذي استغلته دول الناتو لاستباحة الأجواء الليبية.

وفي مصر صرح الرئيس الأمريكي بارك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، أن على حسني مبارك أن يتنحى. وإلى علي عبدالله صالح أرسلت الإدارة الأمريكية بواسطة رجال من إدارته، بأن عليه أن يمشي.

والآن، فإن عملية التهويد وتصفية القضية الفلسطينية جارية بهمة عالية، وبمباركة ودعم غير محدود من الدول الاستعمارية القديمة، أمام عجز عربي فاضح، وفي ظل صمت دولي مخيف، وضمير إنساني لا يتحرك.

وأما عن التقسيم، فالملامح واضحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، ولم تزل مصر محاصرة بالنيران في محيطها، مهددة بالعطش، ومعرضًا اقتصادها وأمنها القومي.

وهكذا لم تنتهِ الحاجة لصراع القوى المتناحرة داخل البلدان العربية، ومن ثم فإن الحاجة للحوثي لم تزل قائمة. ولست في هذا أتهم الحوثي بالارتباط الخفي والتبعية للولايات المتحدة أو سواها من الدول الغربية، ولكني أقول إن استمرار الصراع في اليمن شيء مرغوب فيه إلى أن تنتهي الحوادث عند التقسيم.

إن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يريدون للحوثي أن يهزم ويخرج من دائرة الصراع، وهم في الوقت ذاته لا يريدون له أن يحقق انتصارًا ساحقًا يعيد من خلاله توحيد اليمن تحت قيادته.

وفي ما أتصور، فإن الحوثي سوف يواصل المشاكسة عند البحر، والاشتباك خارج الملعب، وفي حسبانه أنه سيتلقى ضربات يستطيع دفع تكاليفها. مقابل هذه التضحية سوف يقبض ثمنًا عالي القيمة بتعزيز مصداقيته في الحرب على إسرائيل، وبرفع مكانته أمام الرأي العام العربي، وأمام المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية.

وفي الداخل اليمني، فقد نجح في استقطاب كتل من الناس وافقت على أن تتحمل الضيم والعذاب تقديرًا لما تراه موقفًا شجاعًا في وقت تبدو القيادات والجيوش العربية راكعة على ركبتيها ذليلة ومستكينة.

وإذن، فإن الحوثي يشاكس ولا يغرق، إذ هو يعرف أنه يشتبك خارج الملعب، ولو أنه أراد، فإن أمامه القاعدة العسكرية الإسرائيلية في جزيرة دهلك الإريترية على البحر الأحمر.

يدرك الحوثي أنه إذا فعل، فقد دخل إلى الملعب، وأوجع إسرائيل، وذلك هو المحظور والممنوع.

الأكثر قراءة