المشاهد نت

هروب الفتيات القاصرات

التدهور الإقتصادي والإبتزاز الإلكتروني يزيد من ظاهرة هروب الفتيات-اليمن

صنعاء-ياسر غالب الجابري

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصراً، حين خرجت الفتاة “مرام” 14 عامًا (اسم مستعار) لشراء بعض حاجاتها من إحدى البقالات الكائنة في الحي الذي تقطنه مع أسرتها، جنوب العاصمة اليمنية صنعاء، لكنها لم تعد.

تأخرت كثيراً عن أسرتها التي انتابها القلق. خرج والدها للبحث عنها ولم يجدها. أظلمت الدنيا في وجه والديها وأسرتها. سارع الجميع للبحث عن “مرام” في مختلف المنازل والأحياء المجاورة؛ لكن دون جدوى. بعد بحث مضنٍ قرر الوالد الذهاب لقسم الشرطة للإبلاغ عن اختفاء ابنته القاصر.

قال مصدر مقرب من الفتاة لمعد التحقيق، إن (مرام) تعرضت لما أسماه بـ”الاستدراج” من قبل زميلتها في المدرسة، والتي أوهمتها بالذهاب معها لشراء أدوات لها، لكنها قادتها إلى مكان آخر (دون الكشف عن مزيد من التفاصيل).

بعد مضي أسبوعين من البحث والمتابعة، تم إبلاغ الأسرة من قبل الأجهزة الأمنية بأنه تم العثور على الفتاة. وتم إعادتها إرادياً. مؤكدًا “أنها كانت بصحة جيدة، بعد عرضها على الأطباء”، في إشارة إلى أن الأهل عمدوا إلى إجراء فحص للتأكد من أن الفتاة لم تتعرض لاتصال جنسي، “ولم تعد تذهب للمدرسة”.

اختفاء أم اختطاف؟

حسب الأسرة، فإن “مرام” تعرّضت للاختطاف من قبل عصابة تسول (نساء) وكانت تنوي نقلها إلى مكان آخر “لم يتم تحديده”؛ ترفض العائلة السماح بلقاء الشابّة الصغيرة، أو إعطاء أي معلومات أو تفاصيل إضافية عما حصل.  فالأمر بالنسبة لها بالغ الحساسية ويتصل مباشرة بمفهوم العرف والشرف.

بالمقابل، نفى مصدر أمني، صحة تعرض الفتاة للاختطاف، قال المصدر إن مرام  ذهبت مع زميلتها بكامل رضاها، (دون ذكر أي تفاصيل) مشيراً إلى أنه تم رصد حوادث كثيرة مشابهة لذلك، حيث تقوم فتاة ما، بإقناع زميلتها بالهروب من المنزل لأسباب ربما لها علاقة بالعنف الأسري أو الوضع المادي للأسرة بشكل عام. مؤكداً عدم تسجيل أمانة العاصمة أي حالة اختطاف منذ 2015، وما تم رصده هي حالات هروب واختفاء للفتيات القاصرات فقط.

وأكد المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لـ”أوان”، أن بعض الأسر اليمنية تبلغ عن اختطاف بناتهنّ، في حين أن الكثير من الفتيات يهربن من منازلهنّ، يقول المصدر: “بعد التحقيقات نكتشف أن الفتاة هربت من أسرتها، ومزاعم الأسر بتعرض البنت للاختطاف هو تجنبٌ “للعار الاجتماعي”. حسب وصفه.

وقال المصدر، إن الشرطة تبدأ الإجراءات بعد بلاغ الأسرة، حيث يقوم قسم الشرطة بتقييد البلاغ، وإبلاغ غرفة العمليات المشتركة، والتي بدورها تقوم بتعميم اسم الحالة المُبلّغ عنها، والبدء بالإجراءات اللازمة لمتابعة مثل هذه الحوادث، وفقاً للقانون.

يشير قانون الإجراءات الجزائية اليمني في المادة رقم (91) إلى اختصاصات الشرطة، حيث ينصّ على:

أ- “(مأمورو) الضبط القضائي، مكلفون باستقصاء الجرائم وتعقب مرتكبيها وفحص البلاغات والشكاوى وجمع الاستدلالات والمعلومات المتعلقة بها وإثباتها في محاضرهم وإرسالها إلى النيابة العامة”. ووفقا لمختصين، فإن هذا ينطبق على حالة فقدان وهروب القاصرات  بعد إبلاغ أقسام الشرطة والبحث الجنائي.

وعزا المصدر الأمني أكثر الأسباب لتزايد ظاهرة الاختفاء أو الهرب إلى “التفكك الأسري، والحالة الاقتصادية للأسرة، والابتزاز الإلكتروني، الذي قد يدفع الفتيات القاصرات  للهروب من أسرتهنّ” وفق تعبيره.

إحصائيات صادمة

“مرام” واحدة من عشرات الفتيات القاصرات اليمنيات اللاتي هربن من بيوتهنّ  خلال فترة الحرب التي تشهدها البلاد منذ ثمان سنوات، حيث كشف العميد عبد الجبار الأحرمي – المساعد لشؤون الأمن، بشرطة أمانة العاصمة، عن “276 حالة بلاغ فقدان لفتيات تلقّتها شرطة أمانة العاصمة منذ العام 2018 وحتى ديسمبر 2022”.

وأكد العميد الأحرمي، في تصريح لـ”أوان” أن هناك أعدادًا أخرى من الحالات لم يتم توثيقها؛ بسبب عدم قيام الأهالي بإبلاغ الأجهزة الأمنية، خوفاً مما أسماه بـ”العار الاجتماعي”.

وأجرى معد التحقيق استبيانًا الكترونيًا، وزع على 83 فتاة وامرأة شمل عدة محافظات هي، “صنعاء وتعز وإب وعدن ومأرب”، تم توزيعها بطريقة عشوائية، لمعرفة مدى تواجد ظاهر اختفاء الفتيات في المحافظات المشمولة بالاستبيان، بعد تعذر مقابلة أي فتاة تعرضت للاختفاء أو الهرب. فالأسر ترفض السماح للفتيات بالحديث للصحافة معتبرين أن هذه أمور حسّاسة.

إذ تتعرض الفتيات اللاتي قمن بالاختفاء أو الهرب بالحبس داخل المنزل، وفرض عزلة كاملة على الضحايا، وصل في بعض الأحيان حد القتل تحت مسمى “جرائم الشرف”، وفقا لما كشفه تقرير أصدرته منظمة “مواطنة لحقوق الإنسان” في تقريرها حول العنف الأسري في اليمن تحت عنوان “جدران هشّة”، آب/أغسطس 2022م. 

بيّن الاستبيان، أن أكثر من أربعين بالمائة من النساء اللواتي أجبن عن الاستبيان لديهن معارف أو سمعنَ عن قصص لفتيات أو نساء تعرضن للاختطاف أو هربن من عائلاتهن.

هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>
وحول التفريق بين ظاهرتي الهروب من المنزل، أو الاختطاف التي تتم من قبل عصابات مسلحة خارج نطاق الدولة، فقد أكدن أن 56% تعرضن للهرَب أو الاختفاء مقابل 29% للاختطاف من قبل عصابات مسلحة خارج إطار الأجهزة الرسمية (بغض النظر عن سلطة الأمر الواقع فيها).
هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

كما بينت أن 75% تم العثور عليهن سواء تعرضن للاختطاف أو الهروب مقابل 14% لم يعدن بعد، فيما بقية الإجابات أكدت عدم معرفتها بوضع الضحايا لاحقًا.

إقرأ أيضاً  جولة مفاوضات جديدة بين الحوثيين والحكومة حول الأسرى
هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

العوامل الاجتماعية

تصدرت العوامل الاجتماعية والأسرية مثل (العنف المنزلي)، قائمة الأسباب الرئيسية لهروب الفتيات في اليمن بنسبة 44%، مقابل 10% لكل من العوامل النفسية، والتعرض للابتزاز الإلكتروني، وتوزعت بقية الإجابات على الأسباب الأخرى منها الحرمان من التعليم، والوضع المادي للأسرة، والإكراه على الزواج وغيرها.

يسهم الابتزاز الإلكتروني في هروب الفتيات القاصرات من المنازل؛ نتيجة عدم الوعي الأسري للتعامل مع هذه الأمور، من خلال تحميل البنت المسؤولية، وإن كانت ضحية، وهو ما يستوجب الوعي بضرورة احتضان الأسرة للبنت ومساعدتها في حل هذه المشكلة لا تفاقمها، حتى لا يدفعها ذلك للهروب من المنزل للنجاة بنفسها، من مصير قد تراه محتوماً من قبل أسرتها.

كما يؤثر الحرمان من التعليم على الدفع بالفتاة للهروب من منزل أسرتها؛ لأنها قد لا تجد في البيت متسعاً لبناء العلاقات الاجتماعية الواسعة، إلى جانب أن المدرسة تسهم في صقل مواهب البنت أو الفتاة، وكذا تفريغ الكبت الذي قد تواجهه داخل الأسرة، من خلال تعاملها مع زميلاتها في الفصل والمدرسة، وفقاً للخبيرة التربوية اليمنية “أمة الرحمن عارف”.

هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

وقالت 42 بالمائة من النساء المشاركات في الاستبيان أن العائلات لا يقدمن بلاغات باختفاء أو فقد بناتهنّ للأجهزة الرسمية، وأشارت بعض المشاركات إلى أن السبب في ذلك هو خوف العائلات من تقديم البلاغات الرسمية.

هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

وعن أسباب عدم تقديم الأسر بلاغات للأجهزة الرسمية فقد أجاب الغالبية  من العينة بأن السبب يرجع الى الخوف من العار الاجتماعي.

هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

بناء الوعي الوقائي

في تعليقه على نتائج الاستبيان، وصف الخبير الإعلامي اليمني، علي المعطري، أستاذ الإعلام بجامعة صنعاء، تلك النتائج بـ”الصادمة”، مشيرًا إلى أنه لم يكن يتخيل أن يصل الأمر الى هذا الحد في موضوع اختفاء وهروب الفتيات في اليمن.

وشدد في حديثه لـ”أوان”، على ضرورة “الوقوف المسؤول على هذه النتائج، ودراستها دراسة جادّة، ووضع المعالجات الكفيلة بالحد من تفاقم هذه الظاهرة، ووضع التصورات حتى تضطلع كل جهة بدورها في معالجة الدوافع والأسباب”.

وحمّل المعطري، وسائل الإعلام جزءً من المسؤولية لعدم قيامها بالدور المنوط بها إزاء هذه القضايا برأيه وقال: “لو أن الإعلام قام بدوره كما ينبغي في بناء الوعي الوقائي؛ ما وصلنا إلى هذا الحال، وما حصلنا على هذه النتيجة”.

وفي الوقت الذي تمنّى أن “يسهم فتح هذا الملف في إيقاظ الضمائر، وتشكيل بداية لسلسلة من المعالجات”، فقد دعا الصحفيين والإعلاميين إلى “عدم الاكتفاء بالنشر الإعلامي؛ بل ينبغي أن تصل مثل هذه الملفات إلى كل الجهات المعنية في مؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية المهتمة بقضايا المرأة، وأن ينال حظه من النقاش، حتى تُبنى عليه سلسلة من البرامج والمشاريع والمعالجات”.

تزايد الأعداد

وحصل مُعدّ التحقيق على إحصائيات رسمية من شرطة أمانة العاصمة لأعداد الحالات التي تم توثيقها خلال عامي 2019 – 2020م، كما هو موضحة في الجدول التالي:

نوع البلاغاتعدد البلاغاتحالات تم العثور عليهاعدد اللاتي تم إعادتهم إلى ذويهن(مفقودات)
فقدان18416716717
هروب4438386
الإجمالي22820520523
إحصائية فقدان وهروب الفتيات القاصرات في أمانة العاصمة لعام 2019
هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

كما تكشف الاحصائيات التي حصل عليها معد التحقيق، على المحافظات الخاضعة لسيطرة (أنصار الله الحوثيين)، عن تصدر “أمانة العاصمة والحديدة” قائمة المحافظات التي سُجلت فيها حوادث هروب واختفاء للفتيات القاصرات، مقابل عدم تسجيل أي حالة في “الجوف وريمة”، كما يوضح الشكل التالي:

هروب الفتيات القاصرات <strong></strong>

عوامل اجتماعية

تشير الدكتورة هدى أحمد ناجي، الأستاذة المساعدة في كلية الآداب قسم علم النفس جامعة صنعاء، إلى الضغوطات الاجتماعية التي تتعرض لها الفتاة القاصرة والتي قد تدفعها للهرَب.

واستعرضت في حديثها لـ”أوان” بعض الأسباب، منها: “رغبة البنت أو الفتاة في الارتباط بشخص مرفوض من قبل الأسرة، لعدم تفهم الأسرة رغبات بناتهم”، ونوهت إلى “المغالاة في المهور، والزواج القسري، والضغوطات التي تتعرض لها البنت داخل منزلها، والذي يُحوّل البيت إلى بيئة طاردة” حسب وصفها.

من جهتها، أكدت الاخصائية النفسية منيره النمر، رئيسة الوحدة النفسية لمستشفى الرسالة للطب النفسي وعلاج الإدمان، أن هذه الظاهرة “ليست ناتجة عن سوء التنشئة الاجتماعية في الأسرة غالباً، ولكن هناك عوامل أخرى، مثل الحالة الاقتصادية للأسرة والفقر، وكذا العنف الأسري بمختلف أنواعه”.

وتطرقت النمر في حديثها لـ”أوان”، إلى “الإحباط، والشعور بعدم وجود أي قيمة للحياة، والحرمان العاطفي، الأمر الذي قد يدفع البنت للهروب؛ كونها تشعر أن الأسرة سجن صغير، يحرمها من الانطلاق والحرية، خصوصاً تلك الأسر التي ترفع سقف الممنوعات داخل المنزل، أو تمارس التمييز ضد البنات”.

ومع انتشار هذه الظاهرة، وتوسع نطاقها، في مختلف المحافظات اليمنية، وإن بنسبٍ متفاوتة بين كل محافظة وأخرى، الأمر الذي يستوجب تكامل الجهود لوضع الحلول الجذرية لها، وعدم الاكتفاء بالمعالجات الآنية السطحية؛ باعتبارها أزمة مجتمع، وليست مسؤولية أسرة أو مدرسة فحسب.

أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج يضم صحافيات وصحافيين من العراق واليمن وغزة من تنظيم الجامعة الأميركية في بيروت وبدعم من البرنامج الدولي لدعم الإعلام

مقالات مشابهة