المشاهد نت

أطفال السرطان في مواجهة قساوة الآباء وبشاعة المرض

صنعاء – ياسر الجابري

بجسم نحيل، وعينين ذابلتين، تتنقل الطفلة جنّات البرّاق، 8 سنوات، بين أسرّة المرض، وتلهو أحيانًا بالأشكال المختلفة من الدمى والألعاب بمقر المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في صنعاء.

تغمرها والدتها بالحنان، وتقف إلى جانبها دائمًا في رحلة البحث عن الشفاء من المرض.

قبل عامين، كان والدا جنات يستعدان لتسجيلها في المدرسة في مديرية المحابشة، محافظة حجة، شمال غربي اليمن. كانت جنات في السادسة من العمر، وكانت آنذاك متحمسة لبدء الحياة المدرسية، لكنها تعرضت لمرض مفاجئ، وتحولت حياتها إلى معاناة مستمرة.

برز ورم في عنقها، ولم يكن مصدر قلق للأم والأب في الأيام الأولى، وكانا يعتقدان أنه سيزول بعد أيام. لم يتراجع الورم أو يختفِ، بل زاد حجمه مع مرور الوقت، وبدأ الخوف يسيطر على جنات ووالديها.

أخذها والدها الذي يعمل في بيع القات، إلى مركز صحي في نفس المديرية، ثم توجه إلى مدينة حجة لعمل أشعة مقطعية، وهناك اكتشف الأطباء أن ورمًا سرطانيًا يسكن عنق جنات. بعد أشهر من البحث عن العلاج والشفاء، بدأ والد جنات بالتخلي عنها، لتواجه مصيرها في البيت. كان ذلك قراره، لكن أم جنات كان قرارها مختلفًا. لم تستسلم، واستمرت في البحث عن شتى السبل لعلاج ابنتها.

تقدر منظمة الصحة العالمية أن نحو 400 ألف طفل ومراهق تتراوح أعمارهم بين ‏0 سنة و19 سنة، يصابون بالسرطان كل عام، وتشمل أكثر أنواع السرطان شيوعًا بين الأطفال سرطان الدم (اللوكيميا) وسرطان الدماغ والأورام اللمفاوية والأورام الصلبة، مثل أورام الأرومة العصبية وأورام ويلمز.

قامت أم جنات بنقل طفلتها المريضة إلى صنعاء، وأخذت جرعة الكيماوي الخاصة بمرضى السرطان. يتلقى المريض من ست إلى ثماني دورات من العلاج الكيميائي بناءً على خطة العلاج التي يقدمها طبيب الأورام. كانت أم جنات تدفع خمسين ألف ريال مقابل الجرعة في المستشفى الجمهوري، وتكبدت تكاليف المواصلات والأكل والشرب والسكن.

لم تكن الأم تعرف المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، لكن في يوم ما تحدث فاعل خير مع أم جنات، ودلّها على المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان. تقول الأم لـ”المشاهد”: “ظللنا نعالجها لمدة عام كامل، بعت الذهب والبقرة، وكل شيء، لأننا لم نكن نعرف المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان”.

واصلت حديثها قائلة: “عندما وصلنا للمؤسسة قبل ثمانية أشهر، قاموا بعمل اللازم، والحمد لله وفروا لنا كل شيء، من أكل وشرب وسكن، حتى قيمة العلاج تتكفل بها المؤسسة، ولا نخسر ريالًا إلا بعض قيمة العلاجات التي ليست متوفرة في المؤسسة نشتريها من خارج صيدلية المؤسسة على حساب متبرعين وفاعلي خير”.

المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان مؤسسة خيرية وطنية، وغير ربحية، تأسست عام 2003، وتمارس نشاطها وسلطاتها على أساس خيري.

والدة جنات تبدو الآن سعيدة، حيث قالت إن “ابنتها تحسنت كثيرًا عما كانت عليه من قبل جراء العناية والاهتمام الذي وجدته داخل المؤسسة، سواء من الناحية النفسية أو الطبية”.

الطفلة رشيدة.. سبع سنوات من الألم

لم تكن جنات وحدها، من تخلت عنها أسرتها بسبب المرض، فالطفلة رشيدة، 13 عامًا، من محافظة الحديدة، غربي البلاد، تعاني من سرطان في الدماغ، وبقيت معاناتها متعددة الأوجه، بعد أن تخلى عنها والدها، الذي ذهب للزواج بامرأة أخرى وطلق والدتها، وبقيت رشيدة مع والدتها التي تعاني في ذات الوقت من مرض تكسر في الدم “اللوكيميا”، وجدّها من والدتها الذي يعاني من أمراض الضغط والسكر لكبر سنه.

إقرأ أيضاً  وزير الخارجية اليمني الأسبق يوضح سبب توقف عمليه السلام

كانت رشيدة في السنة الخامسة والنصف من عمرها عندما بدأ المرض ينهش جسدها. شعرت في البداية بصداع شديد، وحمى وتقيؤ، وكانت تعجز عن الوقوف على قدميها بسبب الألم الشديد. أخذتها والدتها إلى عيادة ما تسمى الرقية الشرعية لقراءة القرآن عليها بالحديدة، لم يتغيّر وضعها الصحي.

تؤكد رشيدة لـ”المشاهد”: “لم أستفد شيئًا من العلاج بالرقية، بل كان الألم يزداد أكثر فأكثر، ومع استمرار الألم، ذهبنا إلى طبيب لأول مرة في مستشفى الأمل”.

مازالت رشيدة تتذكر تفاصيل زيارتها إلى الطبيب عندما طلب إجراء أشعتين للرأس، حيث كان الألم كله في الرأس، وبعد الأشعة تبين أن عندها سرطانًا في المخيخ، وبعد ذلك قرر الدكتور أن تجرى لرشيدة عملية إزالة الورم.

“ستموت في الطريق”

كانت العملية التي قررها الطبيب باهظة الثمن، ولم تملك رشيدة ذلك المبلغ. حينها حُولت رشيدة إلى المركز الوطني لعلاج أورام السرطان بمستشفى الثورة في الحديدة، وهناك أطلع الأطباء على الأشعة التي تم إجراؤها والتقارير، فوجدوا أن الورم الذي ظهر في الدماغ غير حميد، فتم تحويلها إلى صنعاء.

تواصل رشيدة حديثها بنبرة حزينة، قائلة: “وصلنا إلى المستشفى الجمهوري بصنعاء، وهناك طلبوا منا عمل فحوصات وأشعة من جديد، وأخبرونا أن هذا الورم سرطان، وأنهم لا يستطيعون إجراء العملية في صنعاء، فدخلت في غيبوبة، وأنا في المستشفى”.

لم تستطع رشيدة حبس دموعها حينما قالت: “عندما رآني الدكتور قال لوالدتي إني سأموت، فأخرجوني من المستشفى وقالوا لوالدتي إني سأموت في الطريق”.

آنذاك قال الطبيب: “إذا تحسنت سنحولها إلى ألمانيا لإجراء العلاج”. لكن رشيدة رأت أن فكرة السفر للعلاج مستحيلة لأنه ليس بوسعها تحمل التكاليف.

غادرت رشيدة صنعاء باتجاه الحديدة، ولم تمت في الطريق كما تنبأ الطبيب. تقول رشيدة: “عند وصولنا للبيت لم أمت كما أخبرنا الدكتور، بل أحسست براحة تامة، وعادت ذاكرتي، وفقت من الغيبوبة، وبدأت أتكلم، فأرجعوني إلى مركز علاج الأورام بمستشفى الثورة، وبدأوا بإعطائي مسكنات للألم، فعدنا للعلاج الذي قال الدكتور أستخدمه مدى الحياة، وما أزال أعاني من الألم حتى اليوم”.

تدرس رشيدة حاليًا في الصف السابع في إحدى المدارس الأهلية بمدينة الحديدة، بعد حصولها على مقعد مجاني، كجزء من الخدمات التي تقدمها مؤسسة السرطان للمصابين، حيث تقوم بالتنسيق لهم في عدد من المدارس والجامعات للحصول على مقاعد مجانية، وقد حصلت رشيدة على المرتبة الأولى في المدرسة خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب مدير العلاقات والإعلام بفرع مؤسسة السرطان بالحديدة عبدالمجيد الزيلعي.

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنه لا يمكن عمومًا الوقاية من سرطان الأطفال أو تحديده بواسطة الفحص، وتُعزى الوفيات الناجمة عن أنواع سرطان الأطفال التي يمكن تجنّبها في البلدان ‏المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، إلى ضعف التشخيص أو التشخيص الخاطئ ‏أو التأخر في التشخيص، وإلى عقبات تحول دون إتاحة الرعاية، وإلى التخلي عن العلاج.

مقالات مشابهة