المشاهد نت

مسؤولية اليسار في ما جرى

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

أحيانًا تكون العودة إلى الماضي ضرورية لفهم ما جرى، حتى يتحسس الناس طريقهم إلى المستقبل عن وعي ودراية. ليس أحيانًا، وإنما كثيرًا.
ينطبق هذا على الأفراد، وعلى الشعوب بالدرجة نفسها، حيث لا يمكن إرسال الضوء إلى المستقبل دون فهم الماضي. وليست العودة من أجل البكاء على فرص ضاعت وآمال تبددت، وإنما لوضع الأصابع على الأخطاء حتى لا تعاد السيرة ذاتها.
ونحن في اليمن قليلًا ما نهتم بمعرفة الماضي، وإذا ما استرجعنا الحوادث التي تحضر في الذاكرة، فنحن نمشي على السطوح، لا نتعمق ولا نتأمل.
وفي فهم ما جرى، قد يتعين النظر إلى الفترة من 26 سبتمبر 1962 على وجه التحديد. ولقد استقر في الأذهان حينها أن ذلك اليوم مثل قطيعة مع الماضي نهائية، وأن مرحلة جديدة من التاريخ بدأت، ولن تتوقف. ومع سبتمبر ومنه انبثقت ثورة 14 أكتوبر في الجنوب، واستطاعت إجبار المستعمر على الرحيل بعد أربع سنوات من الكفاح.
في الحدثين كان الفرح عارمًا وشاملًا من أقصى الشمال والغرب إلى أدنى الجنوب والشرق. وكان ذلك عند الاستقلال مع غصة في القلوب، بعد أن حدث ما حدث في صنعاء، في الخامس من نوفمبر 1967.
بعد ستة عقود على 26 سبتمبر، لم يبقَ ممن عاشوا الحدث سوى أعداد قليلة تدب في الشيخوخة، وهذه قُدر لها أن ترى المشهد في هذه اللحظة، وأن تقيس الفارق بين الآمال العريضة التي انتصبت، والحال البائس الذي تحقق.
لا شك أن الفاجعة عند هؤلاء أكبر مما هي لدى الأجيال اللاحقة التي لم تشهد القفزة الكبرى من الإمامة إلى الجمهورية، ومن الاستعمار إلى التحرير. الأجيال الأخيرة قرأت وسمعت وبنت صورًا في الخيال، لكنها لم تعش الخضة النفسية والاجتماعية، ولم تطلق شهقة الفرح، وتتذوق نشوة النصر. ثم إنها جاءت إلى الدنيا وقد تنازلت الآمال بعد الكبوات والانكسارات والمطبات التاريخية.
يعنيني في هذا المقال دور اليسار في ما سارت الأحداث، وفي ما صارت الأحوال. سوف تتفق قوى اليسار في قراءة وتقييم ما جرى على إدانة اليمين.
ستقول إن الإمامة تركت ذيولًا وأصابع تسللت إلى النظام الجمهوري، ونخرته من داخله.
ستقول إن الاستعمار أبقى على عيونه وآذانه في عدن. ستتهم السلاطين وغيرهم.
ستقول إن شيوخ القبائل والقوى الدينية حاربت الجمهورية من داخلها، وانتصرت.

إن قوى اليسار، أكثرها، وقعت في المحظور عندما استغرقتها خلافاتها الثانوية، فراحت تخوض الحرب ضد بعضها، ونسيت التناقض الرئيسي، وأهملت، فلم تلتفت إلى عدوها، وإنما وظفت جهودها ووضعت إمكانياتها في خدمته.


ستقول كلامًا كثيرًا صحيحًا وصادقًا، لكنها لن تعترف بأنها أسهمت في خذلان الشعب، وفي هزيمة مشروعها هي أو شعاراتها في حقيقة الأمر، لأنها لم تكن مشروعًا ثوريًا كاملًا وواضحًا.
إن قوى اليسار، أكثرها، وقعت في المحظور عندما استغرقتها خلافاتها الثانوية، فراحت تخوض الحرب ضد بعضها، ونسيت التناقض الرئيسي، وأهملت، فلم تلتفت إلى عدوها، وإنما وظفت جهودها ووضعت إمكانياتها في خدمته.
في السنوات الأولى للثورة، انقسم الجمهوريون إلى فريقين؛ الأول يتزعمه السلال، ويضم أشخاصًا متأثرين بثورة 23 يوليو المصرية، وبشخصية جمال عبدالناصر: عبدالغني مطر ومحمد الأهنومي وعبدالقوي حاميم ومحمد علي الأسودي وآخرين، وكان معهم الماركسيون الأصليون من أمثال محمد علي الشهاري وعبدالغني علي، وبعض هؤلاء انتمى أثناء الدراسة في مصر لتنظيم “حدتو” الشيوعي. وقد وصفتهم بالأصليين تمييزًا لهم عمن وفدوا إلى الماركسية من أحزاب قومية (البعث وحركة القوميين العرب)، وهم الذين شكلوا القوام الأكبر للحركة الماركسية في اليمن، من سبعينيات القرن العشرين وما بعدها. وكان وراء السلال تيار شعبي واسع وحركة ناصرية تتبلور، خصوصًا في القطاعين الطلابي والعمالي. وضم الفريق الثاني المحافظ العناصر التقليدية القادمة من حركة الأحرار، ومعهم بعض كبار الضباط، وهؤلاء تحالفوا مع شيوخ القبائل بزعامة عبدالله بن حسين الأحمر الذي التحق بالجمهورية بسبب تنكيل الإمام لأسرته.
والواقع أن الثورة لم تتخذ إجراءات اجتماعية تسببت في الاختلاف والانقسام. لقد كان اختلافًا في التفكير والقناعة، وليس في الممارسة، أي أنه كان خلافًا على المستقبل. هل تكون الثورة لمصلحة الشعب وغالبيته من الفلاحين، أم لخدمة أصحاب النفوذ القديم؟

كان وراء السلال تيار شعبي واسع وحركة ناصرية تتبلور، خصوصًا في القطاعين الطلابي والعمالي. وضم الفريق الثاني المحافظ العناصر التقليدية القادمة من حركة الأحرار، ومعهم بعض كبار الضباط، وهؤلاء تحالفوا مع شيوخ القبائل بزعامة عبدالله بن حسين الأحمر الذي التحق بالجمهورية بسبب تنكيل الإمام لأسرته.


اتخذ الخلاف في بعض مظاهره الموقف من الوجود المصري في اليمن. ومع أنه يصعب إنكار تجاوزات تنسب إلى ما كانت تسمى القيادة العربية في اليمن، فإن الرئيس السلال ومن معه كانوا على قناعة باستحالة الاستغناء عن الدعم المصري أمام حرب ضارية تشنها على الثورة قوى إقليمية ودولية. ولم يكن الدعم قتالًا بالسلاح وفداءً بالأرواح فقط، وإنما زاد فوقه تحمل مسؤولية بناء حياة جديدة من خلال التعليم والصحة والإدارة وغيرها من المجالات اللازمة لنقل اليمنيين من قهر التخلف إلى ملكوت الحرية والتقدم. وفي الميدان العسكري فإن التدخل المصري المباشر أملته الضرورة الملحة، فألزم أن يكون مقتًا إلى أن يتم بناء جيش وطني قادر على التصدي للأعداء وهزيمتهم، وقد تولت مصر مسؤولية البناء، وتحملت تكاليفه، فقام ذلك الجيش الذي صمد مدعومًا للمقاومة الشعبية في وجه الحصار بعد خروج القوات المصرية أواخر 1967.
إن عداء القوى التقليدية للمصريين مفهوم تمامًا، فهي مدفوعة بالمصلحة لإضعاف السلال والتوجه الذي يمثله للانقضاض على السلطة وتصفية الثورة مع الإبقاء على كيان جمهوري مشوه. وأما موقف قوى اليسار المعادي للمصريين، فليس مفهومًا بحساب المصلحة على الإطلاق.
كان بعث اليمن يجمل ضغائن القيادة القومية في سوريا تجاه جمال عبدالناصر، حيث كان البعث هناك يحاول أن يستحوذ على سوريا في دولة الوحدة، فراح يختلق الأزمات حتى وجد نفسه يخون شعاره الأول في مثلث “وحدة، حرية، اشتراكية”، ويبارك الانفصال.
الأغرب منه موقف فرع حركة القوميين العرب في اليمن، والحركة نشأت في الجامعة الأمريكية بعد اغتصاب فلسطين وقيام الكيان الصهيوني، وصممت شعاراتها بهاجس العودة والتحرير، حتى إذ بزغ نجم جمال عبدالناصر تبنت أهدافه في “الحرية والاشتراكية والوحدة”. ولكنها ابتداءً من 1964 ذهبت إلى تبني الفكر الماركسي من غير أن تتعمق في قراءة الواقع وقراءة النظرية، وراحت تردد المقولات المبتذلة، وتطلق وصف البرجوازية الصغيرة على الأحزاب والشخصيات الوطنية غير الماركسية. وهكذا وجد فرع حركة القوميين العرب في اليمن نفسه، مثلما حزب البعث، قريبًا من عبد الله بن حسين الأحمر، بعيدًا عن جمال عبدالناصر. ليس بعيدًا، وإنما عدوًا له.

اجتمع اللفيف الغريب من أصحاب العمائم والمشاد والأقباع والقبعات العسكرية، ونفذوا حركة الخامس من نوفمبر، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى انقض أصحاب العمائم والأقباع على ذوي القبعات. ليسوا جميعهم بالطبع، فقد تحالف البعث مع المجموعة التي شنت الحرب الطائفية ضد عبدالرقيب عبدالوهاب


وكذلك اجتمع اللفيف الغريب من أصحاب العمائم والمشاد والأقباع والقبعات العسكرية، ونفذوا حركة الخامس من نوفمبر، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى انقض أصحاب العمائم والأقباع على ذوي القبعات. ليسوا جميعهم بالطبع، فقد تحالف البعث مع المجموعة التي شنت الحرب الطائفية ضد عبدالرقيب عبدالوهاب والضباط الحركيين المساندين له.
إن الردة الثورية حصلت على يد اليسار، فقد كانت حركة نوفمبر مستحيلة بدون دور البعث والقوميين العرب. ولولا ذلك اليوم الأسود لسار التاريخ اليمني في مجرىً آخر. وحتى في ظل الخصومة مع السلال وجماعته، فقد كان في يد البعث والقوميين العرب تنفيذ الحركة لمصلحتهما، وإقامة نظام يجمعهما معًا. بل إن لنا أن نتخيل أن هذا النظام الجديد تفاهم مع الجبهة القومية التي ورثت الحكم في الجنوب، ونفذت الوحدة عقب الاستقلال مباشرةً. لا شك أن المستقبل سيكون باهرًا وباهيًا. ولقد نذهب في الخيال أوسع، ونتصور أن الجبهة القومية تراضت مع جبهة التحرير، وتسلمتا وثيقة الاستقلال معًا، ثم ذهبتا إلى الاتفاق مع حكومة في صنعاء يقودها البعث والقوميون العرب، ودخل الجميع في وحدة.
للأسف رضي البعثيون والحركيون أن تستخدمهم القوى الرجعية أدوات ضد أماني الشعب. وأما في عدن فقد أزاحت الجبهة القومية شركاء النضال، بشقيه المسلح والسلمي، ثم راحت تقيم المذابح حتى انتهى بها المآل إلى البكاء في 1994.
وعندما جاء إبراهيم الحمدي يحمل مشروعًا وطنيًا التف حوله الشعب، وقف حزب البعث والتنظيمات الماركسية كلها ضده. فحين أخذ يوجه الضربات لمراكز الفساد، تجمعت هذه القوى، وأعلنت الجبهة الوطنية الديمقراطية، في 11 فبراير 1976، وتعهدت في برنامجها على إسقاط النظام في صنعاء. جرى هذا بينما كان شيوخ القبائل يجتمعون في خمر من أجل الهدف نفسه. لقد التقت قوى 5 نوفمبر في نفس الخندق من جديد، دون أن تتشاور وتتفق، ودون أن تعلن، لكن لا أقول إنها لم تدرك.
بعد الانقلاب على الحمدي، انسحب البعث من الجبهة. والحق أن بعض عناصره شاركت في الانقلاب، وفيهم سكرتير الغشمي الذي حضر ساحة الجريمة، وقبلها كان مثابرًا على تحريض الغشمي، يزين له الرئاسة، ويفتح شهيته. وليس معروفًا على وجه اليقين أن مشاركة أولئك الضباط تمت بقرار من الحزب، لكن المرحوم يحيى مصلح ينسب في مذكراته لقاسم سلام أن العراق أسهم بمبلغ 15 مليون دولار في تمويل الانقلاب.
بعد هذا، أليس لليسار نصيب كبير في ما جرى؟
وفي ما بعد سوف يتحالف اليسار مع الأحزاب اليمينية كلها، وسيلتحق الناصريون هذه المرة بالخليط العجيب من التكتل الوطني إلى مجلس التنسيق وحتى اللقاء المشترك.

الأكثر قراءة