المشاهد نت

سلطة 5 نوفمبر: عصابة يرأسها معمم

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحفي يمني

بعد وقفة قصيرة أمام ما يجري في البحر الأحمر، أعود لمتابعة التعليق على مذكرات -يوميات- القاضي عبدالرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري في الجمهورية العربية اليمنية، من نوفمبر ١٩٦٧ إلى يونيو ١٩٧٤.
وكنت أناقش الجزء الثالث الذي يغطي الفترة من توليه السلطة إلى الحرب بين شطري البلاد في سبتمبر ١٩٧٢، والإرياني يرسم بانوراما واضحة للنظام السياسي الذي جلس على رأسه بعد إطاحة السلال والفريق التقدمي في النظام الجمهوري الذي أعقب ثورة ٢٦ سبتمبر ضد الإمامة الرجعية المتخلفة.


في المذكرات نحن أمام نظام حكم سيئ الملامح، أبرز ما فيه انتشار الفساد في شتى مناحي الحياة. هناك في ذلك الوقت تفشت الرشوة، وعمت المحسوبية، وجرى نهب عائدات الدولة من الجمارك والضرائب (هكذ بتعبير الرئيس نفسه)

. وكانت الضرائب والجمارك أهم مصدرين للإيرادات الحكومية، يضاف إليهما الواجبات الزكوية. ولم تكن السرقة متاحة من جانب النفقات، ربما لأن الإنفاق الحكومي ظل محصورًا في الجانب الجاري، وفي المرتبات على وجه التحديد، حيث لم تكن هناك استثمارات حكومية، وبالتالي نفقات رأسمالية ذات أهمية.
في المذكرات ليس هناك أكثر من طريق صنعاء -تعز على نفقة ألمانيا الغربية، ونواة لجامعة صنعاء (كليتي التربية والشريعة والقانون) بتمويل من دولة الكويت التي تكفلت بإنشاء جامعة متكاملة، وتولت الإنفاق عليها وتوسيعها حتى ١٩٩٠، عندما أيدت الحكومة اليمنية بحماس صدام حسين في غزو واحتلال الكويت.


لكن كان هناك فساد من نوع آخر، يبرزه الإرياني في شكواه من الفوضى العارمة في الإدارة، ومن تدخل الضباط والقيادات بما ليس لهم من شؤون الناس، ومن تسلط المشايخ وعبثهم بالمواطنين، لا سيما في الجنوب (جنوب الجمهورية العربية اليمنية)، وأما في الشمال فإنهم يتسلطون على أموال الدولة باسم الميزانيات والمرتبات. ويتحدث الإرياني عن تفشي الرشوة والفساد والنهب والسلب، ويعترف أن المظالم التي رفعتها الثورة والجمهورية عن المواطنين، وما كانوا يعانونه من المبالغة في تقدير الزكاة وتكاليف المخمن والقباض وغيرهما، عادت بأكثر مما كانت على شكل مدفوعات للقيادات والمشايخ والضباط والموظفين.

يقدم الإرياني شهادة وافية عن فساد الطبقة الحاكمة، وتكالب رجالها على المناصب، ومن بعد على إرضاء السعودية عقب المصالحة والوعد بتمويل المالية العامة


يقدم الإرياني شهادة وافية عن فساد الطبقة الحاكمة، وتكالب رجالها على المناصب، ومن بعد على إرضاء السعودية عقب المصالحة والوعد بتمويل المالية العامة. إن حسن العمري مثلًا لا يكتفي بالجمع بين الأختين؛ عضوية المجلس الجمهوري، والقيادة العامة للجيش، وإنما يريد الثالثة: رئاسة الحكومة، حيث المنافسة محمومة بينه وبين محسن العيني. وهذا الأخير حين يتولى رئاسة الوزراء، يحتفظ بمنصب وزير الخارجية، وعندما ينعقد اجتماع لوزراء خارجية مجموعة إقليمية كالدول العربية أو الإسلامية، فإن رئيس الوزارء لا يتورع عن الحضور ممثلًا منصبه الأدنى، بدلًا من أن يرسل الموظف الذي يليه مرتبة في وزارة الخارجية. ويوم اقترح الأستاذ أحمد محمد نعمان إضافة نص لمشروع الدستور يمنع الجمع بين عضوية المجلس الجمهوري وأي منصب آخر، يغضب حسن العمري، ويحتجب إلى أن تجري مقدراته، ويلغى النص المقترح. حتى عبدالله الحجري الموصوف بالزهد، عندما انتخب لعضوية المجلس الجمهوري، طلب أن يحتفظ بوظيفته السابقة سفيرًا لليمن في الكويت.
إن الاحتجابات والاستقالات من الممارسات التي تكرر اللجوء إليها بصورة بالغة القرف من قبل رئيس وأعضاء المجلس الجمهوري ورؤساء الحكومة المتعاقبين، وخصوصًا محسن العيني. ولم تكن هذه التصرفات تعبر في أي وقت عن زهد في السلطة، رغم ما يكتنفها من تلوين، وإنما كانت وسيلة دائمة للضغط على الآخرين من أجل انتزاع مكاسب أو حرمانهم من مزايا.
وفي السباق إلى إنشاء علاقة تبعية للنظام السعودي، يروي الإرياني أن الأستاذ محمد أحمد نعمان، وكان عائدًا من أوروبا، أبلغه أنه التقى في جنيف الدكتور رشاد فرعون وكمال أدهم، مستشاري الملك فيصل، وفهم منهما الكثير عن اتصالات الفريق حسن العمري والسيد أحمد الشامي من جهة، ورئيس الوزراء محسن العيني من جهة أخرى، وقال “إن هناك تباريًا في تقديم الولاء وعرض الخدمات”. ويشير الإرياني إلى ملايين الريالات السعودية التي رصدتها الرياض للجنوبيين الفارين من عدن، بنظر الشيخ سنان أبو لحوم، في سياق التحريض على حرب ضد الجنوب. ولا يكف الإرياني عن تأكيد ضعف وطنية الفئة الحاكمة في عهده، فهو يروي ما مضمونه أن أعضاء المجلس الجمهوري تفاهموا مع الأمير سلطان بن عبدالعزيز، بعمل عسكري من الشمال ضد الجنوب، ويقول بأنه أبلغهم أنه لا يسمح “وإذا كانت السعودية تريد أن تدخل في حرب مع الجنوب، فحدودها مع الجنوب واسعة”.

لا يكف الإرياني عن تأكيد ضعف وطنية الفئة الحاكمة في عهده، فهو يروي ما مضمونه أن أعضاء المجلس الجمهوري تفاهموا مع الأمير سلطان بن عبدالعزيز، بعمل عسكري من الشمال ضد الجنوب، ويقول بأنه أبلغهم أنه لا يسمح “وإذا كانت السعودية تريد أن تدخل في حرب مع الجنوب، فحدودها مع الجنوب واسعة”.


السعوديه هنا تضغط لتحريك القادة السياسيين والعسكريين نحو حرب ضد جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وقد اتفقت بالفعل مع قادة شماليين وجنوبيين، لكن الرئيس الإرياني لا يوافق.
الأقرب إلى الظن أن الرئيس خاف من تعريض الدولة التي يحكمها للخطر إذا نشبت الحرب، وإلا فقد كان عليه في أضعف الإيمان أن ينصح السعوديين والقيادات الجنوبية الهاربة، بعدم المغامرة، وفي أقوى الإيمان فقد وجب عليه أن يحذرهم، ويؤكد أنه سوف يخوض الحرب مع الجنوبين الشيوعيين ضد السعوديين ومن يشايعهم من المتبرقعين بالإيمان الديني، وأنه سوف يفعل ذلك بدافع الوطنية التي تعلو وتتقدم كل الدعاوى والذرائع.
لقد أراد الإرياني أن يبرئ نفسه عندما اقترح الحرب على الجنوب من حدودها مع السعودية، فاعترف من حيث لا يحتسب أن عوده الوطني هش وقابل للانكسار، لكن الحقيقة أن هذا هو شأن الشلة التي بدأت الحرب على جمهورية سبتمبر، بعد سنة فقط من قيامها، وعقدت مؤتمر عمران الذي دعا لإسقاط الجمهورية.
ولقد أعترف أنني ظللت لزمن طويل أعتقد أن حرب ١٩٧٢ بين الشطرين فجرها النظام في عدن بإسقاط النظام الرجعي في صنعاء من أجل تعميم الاشتراكية على كامل ربوع اليمن، حتى تبين لي أن شيوخ القبائل كانوا يدقون طبول الحرب، وفي أوهامهم أنهم سوف يحرزون نصرًا مؤكدًا. وبدون أوهام النصر فقد كان بين مقاصدهم التجارة بالدماء والأرواح، وتعبئة محافظهم بما سوف يصفه الرئيس علي عبدالله صالح، بعد أكثر من عشرين سنة، بالمال المدنس. ذلك رغم استفزازات من النظام في عدن، بحسب ما سجلها الإرياني، في مناطق بالبيضاء وغيرها.
ولا يتحرج الرئيس الإرياني من الاعتراف بأنه كان يوافق على الإساءة لمواطنيه، ووصفهم بما ليس فيهم، ماداموا لا يجارون سياسات وتوجهات عهده. فهذا الشيخ عبدالله بن حسن الأحمر يعارض التوجه لانتخاب مجلس الشورى، ويرى في المجلس الوطني المعين الذي يرأسه تعبيرًا عن ديمقراطية زادت عن حدها، أو كما قال في رسالة للقاضي الإرياني إن الديمقراطية في اليمن بعد ٥ نوفمبر، ليس لها مثيل في العالم.
وفهم الإرياني أن الأحمر يخشى من أن تأتي الانتخابات بعناصر شابة لا تمنحه التأييد لرئاسة المجلس، فيطمئن القاضي الشيخ على مركزه، ويقول بأن “دعايات المشايخ والإخوان المسلمين ضد الشباب تصورهم للشعب بأنهم ملحدون مدمنون لا يصلون ولا يصومون، والشعب بحكم تدينه يشجبهم”.
إن الرجل الجالس على الكرسي الأعلى في الحكم، يرضيه ولا يغضبه تشويه جيل كامل، وتدمير سمعته بإلصاق صفتي للإلحاد والإدمان عليه، دون أن يأبه إلى أنه يقترف جريمة بشعة في تشكيك الآباء بأبنائهم، وزعزعة ثقتهم بالمستقبل.
لكن هكذا كان العهد، وكذلك كان رجاله.
وتشهد وقائع عديدة ذلك الصنف من البشر حامل المسؤولية، فالإرياني يروي أن جنديًا في الأمن المركزي منع رئيس الأركان (حسين المسوري) من الدخول إلى الخبراء الروس للاجتماع بهم، فصفعه رئيس الأركان، وجاء قائد الأمن المركزي، وأبلغ الخبر، فصفع الجندي صفعة أخرى لأنه لم يطلق الرصاص على رئيس الأركان.
غير هذه، تؤكد وقائع كثيرة سردها رئيس المجلس الجمهوري، أنه كان يرأس دولة عصابات، وربما يصدق القول إنها دولة بلاطجة تغطي سوأتها عمة وقفطان ولحية مشذبة. ليست الدولة بالمعنى القانوني، وإنما هي السلطة التي أهدرت السيادة، فيما هي تمثل الركن الثالث في الدولة بعد الأرض والشعب. وهي فوق ذاك خانت الوطن في كرامته ولقمة عيشه، فأهانت تلك، وسرقت هذه.

الأكثر قراءة